أثار الصراع الروسي الغربي على الأراضي الأوكرانية، الحديث ثانية عن مدى صواب إقرار البلاشفة بحق تقرير المصير للأمم المختلفة، والموقف النظري والعملي الذي إعتمدوه تجاه حل القضية القومية. وأحاول هنا في هذه السطور التعريف بتلك المواقف، التي وإن تطلبت تطويراً يناسب مرحلة العولمة الرأسمالية، فهي لما تزل طرية وخضراء في الجوهر والكثير من التفاصيل.

ماركس والقضية القومية

اقتصرت مواقف ماركس وأنجلس من القضية القومية على أراء محددة في قضايا عاصرت نضالهما النظري والسياسي، الى جانب ما تضمنه (البيان الشيوعي)، حين أشار الى أن القضاء على إستغلال الإنسان للإنسان سيقضي بدوره على إستغلال أمة لأمة أخرى، وإن الخلاص من الصراع الطبقي داخل الأمم سيزيل العداء بينها (1). وأكد البيان على أن المصالح الطبقية المشتركة للبروليتاريا تسبق الصراعات والإختلافات القومية (2). وأوضح ماركس مسؤولية البرجوازية عن خلق الصراعات القومية، وفضح سعيها المتواصل لإدامة هذه الصراعات، عبر التنافس على الأسواق العالمية واستغلال ونهب الأمم الضعيفة والصغيرة وإعتماد أيديولوجية عنصرية تمكّنها من التحكم بهذه الأمم. وأبدى ماركس وأنجلس دعمهما الكبير لتحرر إيرلندا وبولندا، ودعا أنجلس للأطاحة بالإمبراطورية النمساوية لكي يتحقق تحرير الأيطاليين والمجريين وغيرهم (3). ومن هنا ظهرت الأبعاد النظرية لمفهوم تقرير المصير، وإرتباطه الجدلي بالأممية البروليتارية، حيث يُضعف تحرير الأمة المضطَهدة، الطبقات المهيمنة في الأمة القمعية، ويعزز النضال الثوري للطبقة العاملة في هذا البلد، ويقضي على التناقضات الداخلية ويمكّن العمال في الأمتين من تحديد عدوهم المشترك، الرأسمالية.

لينين والحق في تقرير المصير

لعل حل المسألة القومية، كان من أبرز جوانب الماركسية، التي شهدت تطويراً مهماً على يد لينين، حيث تمكن من وضع إستراتيجية واضحة ومتينة للبروليتاريا العالمية، لتتعامل مع قضايا التحرر القومي، وأن يدافع عنها، حتى بوجه أكثر رفاقه قرباً منه، وأن يخضعها للتطبيق العملي، بعد إنتصار ثورة أكتوبر.

دعا لينين الى قيام تحالف عالمي بين البروليتاريا الأوروبية وبين شعوب المستعمرات، ودافع عن رفع الحواجز القومية بغية تحقيق علاقات تضامنية بين الأمم في مسار نضج الرأسمالية، فكتب يقول (من المستحيل الكفاح من اجل الثورة العالمية الاشتراكية ضد الامبريالية، اذا لم يتم الاعتراف بحق الامم في تقرير مصيرها)(4). وأكد على أن الإعتراف بحق إستقلال الشعوب المضطَهدة سيوفر مستلزمات تعاون الأمم، الذي يمهد بدوره الطريق نحو وحدة وإندماج طوعي وحّر بينها، لأن هذا الإعتراف، ببساطة، يزيل العداوة ويفصل بين خيط الإضطهاد البرجوازي الأسود وبين خيط الأخاء البروليتاري الناصع. وكتب يقول (من شاء أن يخدم البروليتاريا، لا بد له أن يجمع صفوف العمال من جميع الأمم، وأن يناضل بلا كلل ولا تردد ضد التعصب القومي البرجوازي، ضد تعصب “أمته بالذات” وضد تعصب الأمم الأخرى)(5).

ولم يفارق لينين منصة ماركس في علو التضامن الأممي على الصراعات القومية، وكشف عن التناقض بين القومية البرجوازية والأممية البروليتاريا، فكتب يقول (لا تقف البروليتاريا، فقط ضد التنمية القومية لكل أمة على حدة، بل إنها كذلك تحذر الجماهير من مثل هذه الأوهام، وتدافع عن الحرية الكاملة للتبادل الاقتصادي الرأسمالي، وترحب بكل أنواع الاستيعاب القومي، باستثناء ذلك الذي يقوم على القوة أو الامتيازات)(6).

إتجاهات خطرة

وسعى لينين الى تخليص الشيوعيين من إتجاهين خطرين:

أولاً. الإتجاه الذي تعامل مع حركات الشعوب المستعمرة، بإعتبارها حركات برجوازية صغيرة إنتهازية، ولا تتمكن من مواصلة الدرب مع البروليتاريا، حيث رفض لينين إطروحات روزا لوكسمبورغ، التي عرفت بمعارضتها لإنفصال وطنها عن روسيا، وتبنت فكرة قيام تحالف وثيق بين البروليتاريا في روسيا وبولندا، لإرتباطهما في الكفاح الآني والمستقبلي، ولتعذر حدوث تطور مستقل للإقتصاد البولندي بعد إندماجه بالإقتصاد الروسي. فقد إعتبر لينين هذه الأراء، إستهانة بالدور الثوري لحلفاء البروليتاريا، من الفلاحين وشعوب المستعمرات، ذوي الطبيعة الطبقية المزدوجة. وأكد على أن الثورة في روسيا، ليست ثورة عمالية، بل ثورة بقيادة الطبقة العاملة، وإن الحرمان من الحق في تكوين دول مستقلة، هو بذاته أحد أهم أشكال القهر القومي، وأن اعتراف البروليتاريا الروسية بحق الأمم في تقرير المصير، شرط لا غنى عنه لتضامنها مع بروليتاريا الأمم المضطهدة. وعموماً، لم يكن موقف روزا نابعاً من تخندق وطني أو تعصب قومي، بل كان إجتهاداً ماركسياً مفعماً بالإنتماء لقضية تحرير البروليتاريا، ويمكن أن نستدل على ذلك في موقفها اللاحق، حيث كتبت عام 1915، وهي في السجن كتيباً دعت فيه الإشتراكيين للأعتراف بحق كل شعب في الاستقلال والحرية.

ثانياً. الإتجاه الذي راح يهادن الإيديولوجية القومية للحركات التحررية لشعوب المستعمرات، متغافلاً عن جوهرها القومي، المشبع بتأثيرات الثقافة والدين والعرق، ومتخلياً عن التمسك بأسبقية الوحدة البروليتارية على النضال القومي الديمقراطي. وإنتقد لينين موقف تروتسكي، الذي جعل من حق تقرير المصير شرطاً مطلقاً للسلام، قبل أن ينكفيء ويدعو الى إلغاء الدولة القومية، لأنها عقبة أمام تطور القوى المنتجة، التي تحتاج الى تنمية إقتصادية ممركزة.

ثورة أكتوبر وولادة الأتحاد السوفيتي

أقدم البلاشفة على تضمين برنامج الحزب نصاً يعترف بحق إنفصال الأمم الخاضعة للإمبراطورية الروسية، وتكوينها لدول مستقلة. وأصر لينين على تأمين تام لحقوق سائر الاقليات وعلى حرية الإنفصال غير المشروطة، وهو ما تحقق فعلاً في بولندا وفنلندا بإرادة شعبية، بينما تم فرضه في دول البلطيق واوكرانيا وبليروسيا بتدخل عسكري الماني او بريطاني. غير أن لينين، وفي معرض دفاعه عن ربط التكافؤ القومي بين الشعوب مع متطلبات النضال الطبقي للبروليتاريا، والذي تمثل حينها في دعم اول دولة للعمال والفلاحين في العالم، وجد بأن في إنشاء دولة كبيرة مصلحة للشغيلة، لأنها ستوفر سوقاً واسعة موحدة، وامكانيات أكبر للتطور الاقتصادي والثقافي والسياسي. كما أكد على أن قيام روسيا ديمقراطية، تحكمها سوفيتات العمال والفلاحين، ستصبح قوة جذب كبرى لكل كادحي الأمم، الذين سيقتربون من الروس ويندمجون في جمهوريتهم بحرية وطوعية كاملة.

وإشترط لينين لنجاح ذلك، توزيعا عقلانيا ومتوازنا للسلطات واحترام الثقافة واللغة والدين والتقاليد والحدود لكل قومية، تلك المشاعر والقيم، التي ستستمر نشطة ومؤثرة لزمن طويل، حتى لو سادت دكتاتورية البروليتاريا العالم باسره، على حد تعبير لينين، الذي أدرك مبكراً على أن الإتحاد الطوعي للشعوب، لايمكن أن يحقق أهدافه الا إذا ما تواصل تطهيره من أدران الشوفينية وهيمنة الكبار على الأقليات. وقد بادر قبيل وفاته، الى كتابة مشروع تكميلي لحل المسألة القومية، أشار فيه الى (ان حق تقرير المصير المتجسد في الانفصال عن الدولة السوفيتية قد تحول عملياً الى قصاصة من الورق) وأضاف (ونتيجة لذلك أصبحت الأمم والقوميات الصغيرة تواجه خطر التحول الى الظاهرة الروسية والشوفينية الروسية العظمى، التي هي من تجليات البيروقراطية الروسية) (7). وقد أخفى ستالين هذه الرسالة عن المؤتمر الثاني عشر للحزب، وتمسك بالعمل على دمج كل الثقافات القومية واللغات بثقافة واحدة ولغة واحدة، هي الثقافة الاشتراكية. وتشير وقائع التاريخ هنا الى حجم الضرر الذي لحق بالشيوعيين الأوكرانيين والبيلاروسيين والأسيويين جراء موقف ستالين من ثقافاتهم ولغاتهم، وهو ما وضع بذرة الخراب، ذاك الذي وأد لاحقاً الحلم الجميل.

الهوامش:

ــــــــــــ

  1. البيان الشيوعي
  2. المصدر السابق
  3. راجع كتابي ماركس وأنجلس (الأيديولوجية الألمانية) الصادر عام 1932 و(مهام الطبقة العاملة تجاه بولندا) الصادر عام 1974، كما ورد عن ذلك في نقد برنامج غوته (ماركس وأنجلس، المؤلفات).
  4. لينين: حق الأمم في تقرير مصيرها، 2
  5. لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 24 ص 122. 6. لينين، الثورة الأشتراكية وحق الأمم في تقرير مصيرها، دار التقدم 1974.
  6. عامر عبد الله، مقوضات النظام الإشتراكي العالمي، لندن 1997. ويرد في ص 162 كيف تعامل ستالين مع وزير الثقافة الأوكراني الذي سعى للأهتمام بلغة قوميته!
عرض مقالات: