من الطبيعي الاشارة الى أن التجربة الصينية خلال العقود الاربعة الاخيرة تقريبا طرحت جملة أسئلة من بينها: هل تستمر الصين في الجمع بين النقيضين، نظام السوق الاشتراكي والتوجه المتزايد نحو الليبرالية الاقتصادية ؟ هل يشكل “اقتصاد السوق الاشتراكي” نظاماً انتقالياً الى الرأسمالية، أو نظاماً انتقالياً الى اشتراكية ديموقراطية حديثة مبتكرة أو نظاماً انتقالياً؟ وما هي التناقضات والصراعات التي تجري في الصين المعاصرة؟ ما هي نقاط القوة والضعف في الطريق المتبع ؟ وما هي نقاط القوة في يد القوى المعادية للرأسمالية (الساعية نحو الاشتراكية، على الأقل)؟

وهكذا يحتل الجدل حول مستقبل الاشتراكية في الصين مكاناً مركزياً وحيّاً، ويمكن أن يلم هذا الجدل بالزوايا المتعددة للواقع الاجتماعي المعقد، وما يتيحه من فرص للتحليل، والتحرك نحو التغيير.

إن هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، هي التي شكلت موضوعا لمقاربات مختلفة للتجربة الصينية. وإذا كان لابد أن يتم الحكم على البشر، والقوى السياسية التي يمثلونها بناءً على الأفعال لا الأقوال، لذا يصبح السؤال الواجب الإجابة عنه متعلقاً بمستقبل هذا الاختيار الأساسي القائم في الواقع.

وفي ضوء ذلك هناك من يرى أن المشروع الحقيقي لـ “لطبقة الحاكمة” الصينية ذو طبيعة رأسمالية، وبذلك تكون “اشتراكية السوق” مجرد طريق مختصر لبناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها، مع التقليل بقدر الإمكان من الاحتكاكات والآلام المصاحبة للتحول إلى الرأسمالية (1).

في حين يرى باحثون آخرون العكس، حيث يسود اعتقاد عندهم بان هذه التحولات يمكنها أن تفضي الى “تعزيز مواقع الاشتراكية في الصين”.

واستنادا الى الملاحظات السابقة فان متابعة الادب الاقتصادي المتعلق بالتجربة الصينية تتيح فرز “مدارس فكرية” متناقضة بين الماركسين الصينيين حول هذه التجربة، باعتبارهم ادرى بشعابها (2):

  1. المدرسة الأولى، وهي ما زالت متمسكة بـ “الجذور” وترى ان الصين تسير في “طريق اشتراكية ذات خصائص صينية”. ولا جدال ان هذا المنطق يشرعن بعض السياسات الحكومية ومنها “اشتراكية السوق”. مثال ذلك، ان هذه المدرسة تؤيد اصرار الحزب على التمسك بـ “المبادئ الأساسية الأربع” والتي تضم الماركسية وفكر ماوتسي تونغ، رغم ان هذا الأخير قد تم تجاوزه حقاً من جانب نظرية دنغ سياو- بينغ بالترادف مع مقولات جيانغ زيمين “الفكر الهام للممثلين الثلاثة” وملاحظات هيو جنتاو بشأن “التقدم العلمي والمجتمع المتجانس”.
  2. أما المدرسة الثانية فتنطلق من أفق مختلف تماماً، حيث يرفض بعض مفكريها، رفضا كليا إصلاحات العقود الاربعة الأخيرة. في رأيهم، ان القيم الراهنة ذات العلاقة بـ “التحويل” او “الانتقال” مرادفة لنوع من استعادة إرتكاسية للماضي. ويقوم رأيهم الأساس على ان الصين استعادت الرأسمالية وان الشغيلة عادوا ثانية الى ما كانوا عليه في المجتمع القديم، الشرير. وافتراضهم النظري يقول بأن ماوتسي تونغ أسس وطور اشتراكية متقنة وعادلة، وان نظرية دنغ سياو - بينغ قد احتوت على تحريفية إجمالية. وانطلاقا من الملاحظات السابقة فإنهم يرفضون شرعية “اقتصاد السوق الاشتراكية” لأنهم يعتقدون بأن لا مفر ان هذه السوق أقيمت على افتراض ان الملكية الخاصة مقدسة وحتمية، وبالتالي فإنها تقود الى المنافسة والاستغلال والاستقطاب.

وتجد نظرة هذه المدرسة الثانية تبريرها في تعميق الظلم الاجتماعي وازدياد الاستغلال والاستقطاب الخطيرين خلال “عهد الإصلاح”. فنتيجة للإصلاح – بحسب هذه المدرسة- عانت طبقتا العمال والفلاحين، اللتان بدعمهما جاء الحزب الشيوعي الصيني الى السلطة، من التهميش المتزايد سياسياً واقتصادياً. وظهر فساد خطير في صفوف كوادر الحزب، وانضم اتعس المستغلين الرأسماليين الى الدوائر العليا في السلطة.

  1. أما المدرسة الثالثة فتماثل في بعض الأوجه المدرسة الثانية. يعتقد المتمسكون بهذه المدرسة أيضاً ان الصين في مرحلة التراكم الأولي، وان هذه المرحلة تحمل عناصر من استغلال الرأسمالية البيروقراطية والكومبرادور. ومع ذلك، فقياساً الى الصين في ظل ماوتسي تونغ فإنها تنظر الى المرحلة الراهنة كفترة من التقدم التأريخي العظيم. هم يوافقون على ان في الرأسمالية كثيراً من الأخطاء، إلا انها وفرت المرحلة الاكثر تقدماً في تاريخ الانسانية.

وتذهب هذه المدرسة بعيدا لتعبر أيضاً عن امتعاض شديد لأن الصين قد شجعت الاصلاح الاقتصادي فقط وأهملت الاصلاح السياسي.

  1. المدرسة الرابعة ترى انه ينبغي ان يفهم ان “عصر الإصلاح” باعتباره يمثل طورا مبكرا للانتقال من “الاشتراكية التقليدية” التي بدأها ستالين وماو الى “الاشتراكية الديمقراطية”. ونقطة البدء فيها نظرياً هي انه رغم ان الاشكال الاشتراكية الستالينية والماوية تختلف عما افترضه مؤسسا الماركسية، لاسيما في ما يتعلق بالنقص في الديمقراطية والروح الإنسانية إلا انها تظل مع ذلك اشتراكية في طبيعتها. ويتأثر مفكرو هذه المدرسة عموماً بنظريين من أمثال المجري لوكاش والايطالي غرامشي، وبنوع التفكير الذي ساد في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي الذي انعقد في عام 1978. ويرى هؤلاء ان نموذج الاشتراكية المثالي هذا، هو التنوع الديمقراطي الحزبي الموجود في أوربا الشمالية. لهذا، فهم إذ يدعمون الاصلاحات الاقتصادية الصينية كخطوة مهمة أولى، يحاججون بأن الخطوة الثانية هي العمل من أجل نظام سياسي تنافسي، نظام ربما يتألف حصراً من أحزاب تكرس نفسها للاشتراكية وتنشئ حكما جيدا، وبناء اقتصاد مختلط، أي “اقتصاد سوق اشتراكية” يماثل الى حد ما، ما لدى الصين الآن، مشفوعاً بتطبيق نظام اكثر تقدمية ويقام بصورة واسعة على الرفاه الاجتماعي.
  2. وهناك مدرسة خامسة، ترى ان الصين تمر في واقع الحال اليوم، بفترة انتقال من انتصار الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية. والأساس النظري الذي يستند اليه مفكرو هذه المدرسة هو اساس معقد، لكن يمكن التقاطه هنا. فكما معروف افترض ماركس وأنجلز في الأصل، ان الثورات البرولتيارية ربما تحقق الانتصار، في آن واحد، في اقطار أوربية عدة، حيث يكون التقدم الرأسمالي قد بلغ شأنا بعيداً. وبعد ان تأخذ البروليتاريا السلطة في هذه البلدان ستحدث، ولاشك، فترات انتقال عديدة بما فيها التحرك من الملكية الخاصة الى الملكية العامة، وانحلال او انقراض الطبقة المستغِلة، ومحو الفوارق بين الطبقات، وانحلال او انتهاء التبادل.. الخ، لا ينبغي ان تتحقق كل هذه التغيرات لكي يقول المرء ان الاشتراكية قد تحققت.

وترى هذه النظرية ان فترة الانتقال منذ انتصار الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية، تستوجب ان تتعايش، خلالها، أشكال مختلفة للملكية، ولهذا فان نظام اقتصاد السوق لا يسمح به فقط، وإنما يصبح ضروريا وفقا لمتطلبات هذه المرحلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) لمزيد من التفاصيل قارن: جوزيف كريكوري ماهوني وزيولينغ لي، “أفق ماركسي للاصلاحات الصينية” - حديث مع جيزينونغ يي. في:الصــين: الاشتراكية، “الرأسمالية، السوق. ما هي الآن؟ والى أين تتجه؟”، (مجموعة مقالات)، ترجمة عزيز سباهي (بغداد: منشورات الثقافة الجديدة، 2013)، ص 19.

(2) لمزيد من التفاصيل قارن: جوزيف كريكوري ماهوني وزيولينغ لي، “أفق ماركسي للأصلاحات الصينية” - حديث مع جيزينونغ يي....، (مجموعة مقالات)، ترجمة عزيز سباهي (بغداد: منشورات الثقافة الجديدة، 2013)، مصدر سابق، ص 19-21.

عرض مقالات: