في مقال سابق بحثنا أسباب قيام ثورة أكتوبر في ميعادها وما رافقها من أحداث وأهم ما اجترحه أصحابها من مآثر كبرى على طريق حلم البشر في الخلاص من العبودية والإستغلال. وندرس، هنا، بعض أسباب إنهيار وليد الثورة، الإتحاد السوفيتي.

ثورتان في آن واحد

تشير الماركسية الى أن التغييرات الثورية الكبرى لا تحدث بفعل إرادوي، بل عبر نضوج شروط قيام هذه التغييرات. وأن أهم ما يفتح  الطريق لقيام الثورة الإشتراكية يكمن في قيام الثورة البرجوازية وتكامل البنية الإقتصادية للرأسمالية واستنفاذ دورها التاريخي وتطور البروليتاريا عدداً وفاعلية. كما تؤكد الماركسية على أن تستخدم البروليتاريا سلطتها السياسية لإنتزاع الرأسمال من البرجوازية والسيطرة على وسائل الإنتاج، كي يحل التناقض بين الملكية الخاصة وبين جماعية الانتاج، هذا التناقض الذي يقف وراء سرقة فائض القيمة من منتجيه الحقيقيين.

لقد كانت قوى الإنتاج في روسيا متخلفة قبيل ثورة إكتوبر، واتسمت رأسماليتها بالطابع البرجوازي الصغير. واجتهد الماركسيون حينها، وفي طليعتهم لينين في التوصل الى فكرة كسر الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية والسعي لإنجاز مهام ثورتين في وقت واحد، لأن للبروليتاريا، وليس البرجوازية، وبالتحالف مع الفلاحين، القدرة الحاسمة على تحويل الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية (1).

الا أن الجميع وفي مقدمتهم لينين، قد خشي من مخاطر فشل هذا الإجتهاد، وحذر مراراً من التخلف التقني والإقتصادي لروسيا، وتعددت دعواته الى كهربة البلاد وتطوير الصناعة والتقنية الحديثة من جهة وتنمية البروليتاريا، عدداً ووعياً وتنظيماً من جهة مكملة. كما ظل الجميع، يعولون على شرط ضمني وغير معلن، يتمثل في قيام ثورات عمالية في البلدان الرأسمالية المتطورة، تؤدي الى إستيلاء البروليتاريا على السلطة مما يعظّم القدرة على مواجهة النظام الرأسمالي معاً.

لكن الذي حدث في الواقع كان مغايراً للإجتهادات، فلم تحقق الإنتفاضات العمالية في الدول الرأسمالية نجاحاً، وأدى الإنتقال السريع من مرحلة الثورة “البرجوازية” إلى مرحلة الثورة “الإشتراكية”، الى تبني ماسمي بشيوعية الحرب، التي لم تتعامل بعقلانية مع الواقع ومع نزعات التملك والموروث، ولم تظهر إدارة إقتصادية ناجحة تحقق إنتاجاً وفيراً وعيشاً رغيداً، يساهم في التحكم بالصراع الطبقي سلمياً.

ويكمن الدور التاريخي الذي لعبه لينين حينها، في قدرته على إجراء مراجعات فكرية، إستجابة لما تفرزه التطبيقات العملية، فجاء بسياسة النيب التي أكدت على أن فترة الإنتقال بين الثورتين تمثل عملية تاريخية طويلة ومعقدة، تتعايش فيها أربعة نماذج إقتصادية، وليس قطاع الدولة لوحده. غير أن رحيل لينين سمح لستالين بإلغاء سياسة النيب عام 1929 وإعادة المسار الخاطيء وتطبيق التأميم الشامل لسائر وسائل الانتاج وفرض السوفوخوزات في الريف، وتعجيل التصنيع وإنشاء نظام التخطيط المركزي ذي الطبيعة الإدارية والأوامرية. وقد ألحقت هذه السياسة أبلغ الأضرار بالإقتصاد السوفيتي وخاصة في الزراعة وإنتاج الغذاء، وهو ما عكسته نتائج الخطة الخمسية 1928-1932 التي لم تحقق سوى 64% من أهدافها في انتاج الفحم و 42% في انتاج النفط و 35% في انتاج الحديد!

وبدلاً من رؤية هذه التلكؤات وإجراء المراجعات المناسبة، جرى إطلاق العنان لأوهام، تقول بأن تطور ملكية الدولة والملكية التعاونية سيؤدي الى اندماجهما في ملكية الشعب بأسره، مما يحقق قدرة اقتصادية هائلة، تضمن كميات وافرة ونوعيات راقية في الانتاج الصناعي والزراعي، وأن قانون القيمة والربح والتكاليف والقيمة المضافة والعرض والطلب ونظام الأجور والحوافز والاسعار وغيرها، لا وجود لها في الإقتصاد الإشتراكي! وأدت هذه الأوهام، خاصة في السبعينيات، الى تفوق النمو الإقتصادي للولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتي، الذي صار يعاني من تصاعد في وتائر التضخم وفي سوق المضاربة بالعملات وشمل التردي قطاعات البناء والزراعة والخدمات وتجارة المفرد (2). 

الإمبريالية آخر مراحل الرأسمالية

طرح لينين فكرة بلوغ الرأسمالية أعلى مراحلها المتمثلة بالإمبريالية، وجرى التمسك بدوغماتية عجيبة بهذه الفكرة، ورفضت مقولة كاوتسكي التي احتملت وجود مرحلة أعلى من الرأسمالية، تتحد فيها الدول الإمبريالية وتنهي الحروب في ما بينها وتستثمر العالم من قبل رأس المال المالي.

لقد تمكنت الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية من التكيف مع تناقضاتها وأزماتها الدورية، ولو الى حين، عبر إعادة هيكلة الإقتصاد العالمي وإستيعاب أخر مبتكرات التكنولوجيا في الإنتاج، وراحت تجدد بنيتها وأنماط هيمنتها على العالم.

وفي الوقت الذي تم فيه التغاضي عن هذه الحقائق، جرى تحريم أية مراجعات نظرية يمكن أن تفسر هذه القدرة من جهة وتعمد الى تطوير التجربة الإشتراكية لتعود متفوقة في المبارة من جهة مكملة. كما تم تكفير كل من يشك في أن الإنتقال الى الإشتراكية هو المضمون الأساسي للأزمة العامة للرأسمالية.

 

الديمقراطية السياسية

تعد الدولة حسب مفهوم ماركس، مجموعة المؤسسات المعنية بممارسة القهر من أجل المحافظة على هيمنة طبقة إجتماعية على باقي الطبقات، ولهذا فهي نتيج للانقسام الطبقي، وتزول بزواله. ودعت الماركسية البروليتاريا الى إنتزاع أداة القمع هذه من البرجوازية والقضاء على الإستغلال الرأسمالي بواسطتها، فيما أصطلح عليه بدكتاتورية البروليتاريا، التي اعتبرت السلطة السوفيتية بعد أكتوبر تجسيداً لها.

ولهذا دافع لينين عن إحتكار السلطة من قبل الحزب، في صراعه مع روزا لوكسمبورغ وكاوتسكي، وبنى فكرته عن هذا الحزب الواحد على أساس قيام أعضائه، ممن يمتلكون وعياً عالياً وينذرون أنفسهم للنضال، بتوعية البروليتاريا بحقوقها وقيادتها لإنتزاع تلك الحقوق، في ثورة تنتزع السلطة والثروة وتضعها بيد منتجيها. فالحزب طليعة الطبقة العاملة وهيئة اركانها وقيادتها، منغمر في صفوف الناس وله عليهم دالة معنوية وسياسية.

وقد وفرت الحرب الأهلية والتدخل الخارجي والصراعات داخل الحزب نفسه، فرصة مهمة لحل الأجهزة الرقابية كالجمعية التأسيسية وتحويل السلطة الكاملة إلى الحزب فقط ثم الى قيادته وأخيراً تم ترسيخ قيادة الزعيم الواحد، سكرتير اللجنة المركزية، باعتباره القائد الأوحد للدولة والحزب والمجتمع، الأمر الذي جرى معه تغير دور الحزب في المجتمع من مؤسسة سياسية فكرية طليعية واعية مهمتها نشر الوعي ورفع مستوى الجماهير إلى مؤسسة إدارية تقود كافة مؤسسات ودوائر الدولة المدنية والعسكرية والإقتصادية والثقافية. وكان بديهياً أن يرافق التحول السابق إنتماء الكثيرين من النفعيين والإنتهازيين بل وحتى المعادين للإشتراكية الى الحزب، مشكلين طابوراً خامساً في صفوفه، أتضح دوره المدمر فيما بعد.

وأدى غياب أية مراجعات فكرية تكشف طبيعة الديمقراطية الإشتراكية، وخاصة جوهرها أي الحرية، الى خراب نخر الحزب، الذي تماهى مع الدولة، فتفاقمت البيروقراطية وتنامي الفساد، وهيمنت فئات بيروقراطية، أو ما يشبه الطبقة، تنهب ملكية الدولة وتهيمن عليها وتحتكر كل أفضليات النظام الإشتراكي (3).

الحاجات الثقافية والروحية

تشير الماركسية الى ترابط حل المشكلة القومية مع نجاح الثورات الاجتماعية وتحرير البروليتاريا. ويرتكز المفهوم اللينيني حول المسألة القومية على الربط بين المسألة الوطنية والقومية من جهة، وبين المسألة الاجتماعية – الطبقية من جهة أخرى، حيث رفض لينين كلا التوجهين، إختزال المسألة القومية بجانبها الطبقي أو نسيان جوهرها الطبقي.

وتمسك لينين بشعار “حق الأمم بتقرير المصير” فكتب يقول (لابد للإشتراكية الظافرة من أن تحقق بالضرورة الديمقراطية الكاملة، ومن أن تحقق بالتالي لا المساواة التامة في الحقوق بين الأمم وحسب، بل أن تطبق أيضاً حق الأمم المضطهدة المظلومة في تقرير مصيرها بنفسها، أي حقها في حرية الإنفصال السياسي).

لكن الأمر إنقلب تماماً بعد وفاته، حيث إعتبر ستالين النزعات القومية ظاهرة داخلية بالغة الخطورة ، ويجب أن تخضع لسلطة الطبقة العاملة. وطبقت قبيل وبعد الحرب الثانية سياسة إضطهاد غير مبرر لبعض القوميات والأقليات، وفرضت اللغة الروسية على الجميع وكان نادراً ما تجد قيادياً غير روسي في قيادة الحزب العليا.

وفيما لم يجر التمييز بين الدين كحاجات روحية للأفراد وكمعطى ثقافي وحضاري وتراثي، وبين الفكر السياسي الديني الذي يطرح نموذجاً ومثالاً لتأطير المجتمع كي يتقبل سلطته، شنت حملة واسعة على المؤسسات الدينية، لاسيما ما تدخل منها بالسياسة وتعاون مع الدوائر المناهضة للإتحاد السوفيتي. وتمت للأسف إهمال نصيحة أنجلس من إمكانية إستخدام الجانب الإنساني للدين في محاربة الإستغلال والقهر.

وراحت تذوب تدريجيا وتتلاشى القيم العظيمة التي تضمنتها القوانين والأنظمة في الدول الإشتراكية كمبادئ العدالة والحرية والتواضع وحب الاخرين والشرف وممارسة النقد والنقد الذاتي والتعاون والمساواة وحرية الإبداع  وغيرها. ولعل أبشع مثال على ذلك، إخفاء رسالة لينين الى المؤتمر الثاني عشر، والتي شخصت بداية الكارثة، في وقت حنّط فيه جسده بعد موته، كمومياء مقدسة!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فيما انتقد مفكرون بارزون مثل بليخانوف ذلك، اتفق كاوتسكي وتروتسكي وبوخارين وروزا لوكسمبورغ مع هذه الفكرة.

(2) عامر عبد الله: مقوضات النظام الإشتراكي العالمي.

(3) المصدر السابق

عرض مقالات: