توضيح العلاقة الوثيقة ما بين النظرية/المنهج الفكري والعمل السياسي في وعي الانسان مهمة جدا لأن طبيعة المنهج الفكري المتّبع في التحليل هي التي تفتح افاق مختلفة لاشكال العمل الفعلي، منه العمل السياسي. تأتي النظرية بقراءة معينة عن طبيعة العالم وطبيعة العناصر الموجودة فيه، والعلاقات ما بين العناصر حسب المنهجية التي تتبناها لقراءة، واستخلاص المعلومات والحقائق من العالم، وفي النهاية تلخص استنتاجاتها في نظرية/منهج متناسق/ة. اختلاف النظريات تعني الاختلاف في الفهم لطبيعة الواقع ولموقع الفرد منه، إذًا تختلف طبيعة النشاط حسب النظرية. سنعرض في هذه المقالة الاختلاف ما بين المنطق الجدلي والمنطق الميتافيزيقي في قراءة العالم، وسنسعى لتبيان الاختلاف في فهم الوقائع ما بين المنطقين والعمل الفعلي، الذي قد يتأسس على هذه القراءات.
كتب لينين في نص “الدفاتر الفلسفية” “إن الدِّیالكتیك (الجدل)، بمعناه الأصلي، ھو دراسة التناقض في صمیم جوھر الأشیاء”. نستخلص من هذه المقولة بأن المنهج الجدلي يقبل أن طبيعة جوهر الاشياء ليست احادية البعد و”وحيدة الجانب”، وأنه يوجد في صميم الاشياء تناقض، أي أن هناك علاقة بين أكثر من عنصر مكوّن لجوهر الاشياء، وطبيعة هذه العلاقة قائمة على الاعتماد المتبادل والترابط بين أطراف متعارضة. نقد مفهوم “احادية” الجوهر في الاشياء يرافق الطرح بأن الاشياء، منها الكلية والجزئية (اي الاطراف الموجودة في التناقض والمكوّنة للاجسام الكلية)، موجودة في حركة دائمة وتتطور “من باطنها (ضمنها) ومن حیث صلتها بالأشیاء الأُخرى، وذلك بمعنى أنه ینبغي النظر[في المنطق الجدلي] إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنیة (الضمنية) الذاتیة والحتمیة، وأن كل شيء یرتبط في حركته بالأشیاء الأُخرى التي تحیط به ویتبادل معھا التأثیر”.
بما أن علاقة التناقض موجودة في التكوين الباطني لكل الاشياء، وان التطور من حالة الى أخرى يتأسس على التناقض وعلى التأثير المتبادل بين الخارج والتركيب الباطني، إذًا الاشياء الكلية والجزئية موجودة في عملية تغيير الاشياء التي تترابط وتتفاعل معها، وعملية تغيّر ذاتي. ولكن من المهم القول بأن خصوصية التركيب الباطني في الاشياء، أي الشكل الخاص للتناقض في الشيء، هي الأرضية التي على أساسها تتحوّل الاشياء، وأن نتيجة التفاعل الخارجي مع الجوهر تتحدد حسب التركيب الباطني. لتبيان الصلة الوثيقة بين الفكرة السابقة والحقيقة الملموسة، نأخذ كمثال فكرة المجتمعات الطبقية المختلفة. كل مجتمع طبقي يتمايز ويختلف حسب طبيعة علاقة الطبقات المختلفة لوسائل الانتاج التي هي في صلب التنظيم الاجتماعي - الاقتصادي الخاص فيه، مثلاً تتشارك الاقطاعية والرأسمالية بوجود هيمنة وسيطرة طبقية في المجتمع، ولكن تمظهر هذه السيطرة والعلاقات الطبقية تتمايز وتختلف بينهما، وهذا الاختلاف في التناقض الضمني الخاص في كل من المجتمعات المذكورة هو الذي يحدث على اساسه كل تغيير. مثلاً، أتى ظهور البرجوازية كطبقة مسيطرة كردة فعل على تزايد التناقضات في المجتمع الاقطاعي، وتكوّنت الطبقة العاملة/ البروليتاريا كردّة فعل للتنظيم الاجتماعي - الاقتصادي الجديد في الرأسمالية.
باختصار، التطور هو عملية ارتقاء، “ارتقاء [في الشيء] مبني على ما سبقه، يتضمن ما سبقه”. العودة الى مقولة هيراقليطوس تساعد في توضيح الافكار المطروحة أعلاه وهي: “كل شيء كائن وغير كائن، لأن كل شيء يسيل، وكل شيء يتحول باستمرار وصائر وفانٍ”. إذًا يتميز المنهج الجدلي بطرحه بأن خصائص جوهر الاشياء ليست جامدة وان الجوهر موجود في عملية تحوّل وحركة مستمرة وان الاشياء ليست موجودة في حالة عزلة، بل العكس، الاشياء تتفاعل باستمرار.
النظرة النقيضة للجدلية هي النظرة الميتافيزيقية (حسب تسميتها في نص “في التناقض) و”إن دعاة ھذه النظرة یعتبرون أن جمیع الأشیاء في العالم، جمیع أشكالھا وفصائلھا منعزلة بعضھا عن بعض إلى الأبد، وثابتة لا تتبدل بصورة أزلیة، وأنه إذا كانت ھناك تبدلات فإنھا لا تعني سوى ازدیاد أو نقصان في الكمیة وتغیر في المكان؛ وأن سبب ھذا الازدیاد أو النقصان وذلك التغیر لا يقوم في باطن الأشیاء نفسھا، بل تقوم خارجھا، أي بفعل قوى خارجیة. ویرى المیتافیزیقیّون أن الأشیاء المختلفة في العالم وخصائصھا، قد بقیت على حالھا منذ اللحظة التي وُجدَت فیھا. ولیس كل تبدل لاحق سوى ازدیاد أو نقصان كميّ. ویرون أن الشيء لا یمكن إلا أن یتكاثر ویتولد عنه نفس الشيء مراراً وتكراراً إلى الأبد، ولا یستطیع مطلقاً أن یتغیر إلى شيء آخر مختلف”. إذًا حسب هذه النظرة لا توجد عملية التغيّر والتطور النوعي، وإن الجوهر في الاشياء ثابت وجامد وموجود بعلاقة عزلة مع الاشياء الاخرى، وإن أي تفاعل مع العالم الخارجي لا يؤدي لاختلاف وتمايز نوعي.
عندما نأتي لموضوع العمل في الروتين اليومي، نرى أن النظرة التي نتخذها كأداة للتحليل تحدد موقعنا الفعلي من الظواهر في الحياة اليومية. مثلا، اذا قاربنا موضوع الاستغلال في لبنان مقاربة تاريخية – ميتافيزيقية، نرى أن الاستغلال في لبنان لا يختلف نوعياً خلال كل المحطات التاريخية، وبأن ظاهرة الاستغلال هي نفسها من زمن ما قبل الاقطاعية والاقطاعية والرأسمالية، وأن في كل هذه المحطات الزمنية بقي الاستغلال هو نفسه في كل العالم وفي لبنان. إذًا لا يختلف ولا يتمايز الاستغلال نوعياً مع اختلاف الزمان والمكان، وإن ترجمنا هذه النظرة للفعل، بما أنه لا يوجد فارق بين الاشكال التاريخية للاستغلال، إذًا المعالجة لهذه الظاهرة تكون واحدة وأن الادوات المستخدمة لمعالجتها في زمن الرأسمالية التبعية في لبنان لا تختلف من الادوات المعتمدة لمعالجتها في الحقبات التاريخية الاخرى. أما النظرة الجدلية - التاريخية تقبل أن يكون هنالك إستغلال في كل هذه الحقبات الزمنية المختلفة، وفي الاماكن المختلفة، ولكن العناصر الموجودة ضمن علاقة إستغلال تتطور وتتغير، وطابع العلاقة بحد ذاته يختلف من تنظيم إجتماعي - إقتصادي الى آخر. إذًا التمايز النوعي في الحقبات الزمنية والاماكن تستوجب التمايز في الادوات المعتمدة لحل الظاهرة الراهنة. إضافة، الاختلاف ما بين المنهجين يؤدي لاجوبة مختلفة بخصوص طبيعة المجتمع الطائفي في لبنان.
مثلاً تقبل النظرة الميتافيزيقية أن الطوائف هي أجسام ثابتة وجامدة تاريخياً، وإنها منعزلة عن بعضها البعض، وإن كان هنالك اي تفاعل ما بينها أو ما بين البنى الاجتماعية – الاقتصادية، لا يلحق هذا التفاعل أي تحوّل نوعي في هذه المجموعات البشرية، ويستنتج المنطق الطائفي على أشكاله المختلفة، الذي هو الايديولوجية للبرجوازية التبعية اللبنانية حسب مهدي عامل، ان ازلية وجماد الطوائف يستوجب دولة طائفية وتوافقية وتنسيقية. اذا أتينا للمنطق الجدلي، نرى أن الطوائف ليست منعزلة وليست جامدة، بل بالعكس كما كل المجتمعات البشرية تتفاعل مع البنى الاجتماعية – الاقتصادية، وإنها تنظمّت فعلياُ حسب هذه التنظيمات، وأنها، تاريخياً، أخذت أشكالا مختلفة، وأنها أخذت شكلها السياسي الراهن بالتفاعل مع المجتمع الرأسمالي اللبناني. يكتب مهدي عامل، معتمدا المنطق الجدلي، “فالطوائف في وجودها السياسي، قائمة بالدولة البرجوازية نفسها، وليست قائمة بذاتها. ولا وجود سياسي لها الا بهذه الدولة التي هي، في طابعها الطبقي نفسه، دولة طائفية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“النداء” اللبنانية – 8 تشرين الأول 2021