كتب ماركس وإنجلز كتاب) الأيديولوجيا الألمانية( في عامي 1845 و1846، لكنه ظل على شكل مخطوطة حتى عام 1932 حين تم نشره باللغة الألمانية، ولم يترجم إلى الإنجليزية حتى عام 1961، والى الفرنسية عام 1968، ثم ظهرت الترجمة العربية لأول مرة عام 1972 بترجمة الدكتور فؤاد أيوب.

يضم المؤلف مجلدين ضخمين (حوالي 1000 صفحة) يتناول الأول نقد الفلسفة الألمانية بعد الهيغلية، ويبحث ثانيهما في نقد الاشتراكية الألمانية التي شاعت آنذاك، واكتسبت نفوذا داخل بعض الفئات العمالية فضلا عن بعض المثقفين الألمان، وأطلق عليها أصحابها تسمية «الاشتراكية الحقيقية». وقد وصف ماركس وانجلز عملهما هذا بأنه عمل حاسم يهدف الى توضيح الأمر لأنفسنا، وما ان تحقق ذلك حتى «تخلينا عن المخطوطة، وعن طيب خاطر، لنقد الفئران القارض».

الحياة تحدد الوعي

يبدأ ماركس وإنجلز ببيان عام حول ما يعتقدان أنه يفصل البشرية عن بقية مملكة الحيوان:

«يمكن تمييز الناس عن الحيوانات من حيث الوعي، من حيث الدين أو أي شيء آخر تحبه. وهم أنفسهم يبدأون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدأوا في إنتاج وسائل عيشهم، وهي خطوة مشروطة بتنظيمهم البدني. ومن خلال إنتاج وسائل عيشهم، فأن الناس ينتجون حياتهم المادية بشكل غير مباشر».

لنكن صرحاء مع أنفسنا، ما الذي نفعله كبشر قبل كل شيء؟ نحن ننتج و/ أو نستهلك. بعضنا يتذمر لأننا ننتج، في الغالب، أشياء غير مرغوب فيها، وبعضنا الآخر يستمتع بعجائب المجتمع الاستهلاكي، لكن في كلتا الحالتين، تبقى وجهة نظر ماركس وانجلز صحيحة ولا يمكن تجاهلها.

بعد ذلك، يختصر ماركس وإنجلز آلاف السنين من التاريخ في ثلاث صفحات ضمن مراجعة سريعة لما يسمونه أشكال الملكية: القبلية، القديمة، الإقطاعية. حيث تتميز كل مرحلة من هذه المراحل بعلاقات ملكية محددة تعكس، بدورها، التقسيم المتزايد التعقيد للعمل داخل كل مجتمع. وكلا هذين العاملين، علاقات الملكية المحددة وتقسيم العمل، مرتبطان بتطور ما يسمونه «القوى المنتجة».

ثم ينتقلان من القول العام بأن الناس «ينتجون وسائل عيشهم» إلى معاينة تنوع المجتمعات البشرية. يمثل هذا الانتقال اتجاها جديدا في دراسة التاريخ، وان كان بشكله الأولي الفظ، وأعني دراسة التغييرات والصراعات والتحولات بدلاً من الأفكار الخالدة من ناحية، والدراسات التطبيقية البسيطة للاقتصاد والتاريخ من ناحية أخرى. يسمي ماركس وإنجلز هذا بـ «التاريخ المادي» ويلخصان هذه الرؤية على النحو التالي:

«إننا ننطلق، لا مما يقوله الناس ويتخيلونه ويتصورنه، وإننا ننطلق كذلك، لا من الناس الموجودين في الكلام فقط، وفي الأفكار والتصورات والتخيلات لكي نمضي منهم الى الناس الحقيقيين؛ ان نقطة الانطلاق بالنسبة لنا إنما هي الناس الفاعلون فعلا، ومن عملياتهم الحياتية الفعلية نستخلص كذلك تطور الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لهذه العملية الحياتية. وحتى الأشباح الغامضة في أدمغة الناس هي منتوجات ضرورية أيضا، ضرب من تصعيدات لعملياتهم الحياتية المادية التي يمكن التحقق منها تجريبيا والتي ترتبط بمقدمات مادية. وعلى هذا النحو فأن الأخلاق، والدين، والميتافيزياء، وسائر أنواع الأيديولوجيا وأشكال الوعي المتناسبة معها تفقد في الحال كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي. فهي لا تملك تاريخا، وليس لها تطور: فالناس الذين يطورون إنتاجهم المادي، ومعاشرتهم المادية يغيرون كذلك مع واقعهم هذا تفكيرهم ومنتوجات تفكيرهم. ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي»

هل نفهم من هذا ان ماركس وإنجلز حتميان اقتصاديان، وإنهما ينكران قوة الفكر البشري، خصوصا وانهما يكتبان هنا بالأسود والأبيض: «الحياة تحدد الوعي»؟ الجواب كلا طبعا، ربما بالغا بقولهما إن الأفكار «لا تملك تاريخا، وليس لها تطور»، لكن إذا وضعنا هذا في سياق كل شيء قرأناه حتى هذه النقطة، يجب أن يكون واضحًا بما فيه الكفاية أن ماركس وإنجلز يقولان إن قدرتنا على التفكير والتحدث هي نتاج اعتمادنا على أشخاص آخرين لإنتاج الغذاء، المأوى، الملبس، التكاثر.

لنأخذ مثلا شخصية مثل مارك زوكربيرغ، مؤسس موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) هل كان بإمكانه القيام بذلك لوحده، بشكل عصامي؟ لا طبعا، لأنه كان يعتمد على دراسات سبقت فكرته، وعلى أشخاص وفروا له المعدات والغذاء والكراج الذي عمل فيه وملابسه، لهذا قال له الرئيس الأمريكي أوباما ذات مرة «أنت لم تبن ذلك لوحدك». هذه هي الحياة، اجتماعية.

عليّ ان أضيف هنا، اعتقادي بأن ماركس وانجلز كانا، حتى ذلك الوقت، يميلان إلى توقع نشوء بعض الأفكار، بشكل أو بآخر، من ظروف اجتماعية معينة. لنتذكر ما كتبه ماركس قبل بضع سنوات في كتابه (العائلة المقدسة):

«لا يهم ان نعرف الهدف الذي يتصوره مؤقتا هذا البروليتاري أو ذاك، أو حتى البروليتاريا بأكملها. بل المهم معرفة ما هي البروليتاريا، وما الذي ستكون مضطرة تاريخيا ان تفعله طبقا لهذا الكيان... ليست هناك حاجة لتوضيح أن قسما كبيرا من البروليتاريا الفرنسية والإنجليزية يدرك بالفعل مهمته التاريخية ويعمل باستمرار على تطوير هذا الوعي إلى أعلى درجة من الوضوح».

وحتى بعد (أطروحات عن فيورباخ)، حيث أجاب ماركس على مسألة «من سيعلم المعلم؟» من خلال طرح عملية الممارسة الثورية أو البراكسيس، كان لا يزال يميل الى توقع أن أفكار وممارسات الطبقة العاملة ستهدف بالضرورة إلى القضاء على الرأسمالية. هل هذا صحيح؟ واذا كان هذا صحيحا، فهل هناك حواجز محتملة؟

عرض مقالات: