عدت للسكن في نفس البيت ولكني لم أعد للعمل في الشالجية، وحرصت على اللقاء عصر اليوم الثاني مع رفاقي من البصرة وهم كل من الرفيق عبد الباقي شنان (ابو وفاء)، الذي كان موقوفا معي في مديرية أمن البصرة واضرب عن الطعام لمدة 51 يوما واخوه عبد الحسن وابو أكرم، وابن خال ابو وفاء وكنا نتبادل أخبارنا وتطورات مكوثنا في العاصمة، وكان هاجسنا كيفية الحصول على إمكانية لمغادرة العراق وبعد اللقاء نعود كل الى البيت الذي يأويه، في خارج البيت رتب لنا الرفيق ابو لنا وهو الملحن العراقي الكبير طالب غالي لقاء مع نسيبه المهندس سالم (ابو إيناس) شقيق ام لنا الذي كان لديه مقاولات في بغداد لدى وزارة الشباب لبناء مراكز للشباب، وكان عنده عقد عمل لإعادة ترميم وبناء البيت لأحد كوادر الوزارة ظن وأتفق معي للعمل هناك وكنا في العمل الشهيد عبد الله وحسن الملاك وودود وهو شاب رائع وابو لنا والجميع كانوا من البصرة، البيت كان يقع في العيواضية وهي منطقة راقية سكنها اكابر بغداد ومالك البيت هو ابن الشهيد يونس السبعاوي شهيد ثورة 1941م او ما سميت حركة رشيد عالي الكيلاني، العائلة محترمة فبالرغم من إنهم في البيت إلا إنك لا تسمع صوتا فيه، وبه حديقة غناء تكثر فيها أشجار الفاكهة، خاصة البرتقال والليمون والنارنج، ولم نقطع ثمرة واحدة.

شرح لنا المهندس سالم مهمتنا في العمل وهي: أعمال ردم بئر قديم في حديقة البيت ومد شبكة مجاري وربطها في المجرى الرئيسي، وقلع كاشي قديم لإحدى الغرف ورصف كاشي موزاييك جديد بدله وعملنا بهمة وهدوء، فأنجزنا العمل الموكول لنا كله في يوم واحد، وعندما عاد صاحب البيت من عمله عصرا انبهر من الإنجاز، ومن سلامة الحديقة وفواكهها، فسأل الأستاذ سالم مستغربا، "هل أنت متأكد إن هؤلاء، وهو يقصدنا في سؤاله، هم عمال بناء؟ " فأبتسم صاحبنا وقال لماذا؟، فقال له الرجل "اولا كل هذا الإنجاز في العمل غير معقول وثانيا لم تدن أنفسهم على ثمرة واحدة من الحديقة ولم يتركوا مخلفات العمل توسخ الحديقة"، قال له المهندس: هؤلاء أفضل العمال لدي أستعين بهم جميعا فقط للعمل عند الناس الذين أحبهم وأريد لهم الخير، فقال الرجل منتشيا "ما دام هؤلاء العمال الشرفاء موجودين فسأقوم ببناء كل ما يحتاجه البيت هذا أولا وإنه اعتبارا من يوم غد سيكون غداهم عندنا في البيت يتغدون معي وانت معهم"، فقد كنا قبل ذلك نتغدى في مطعم في محلة العيواضية.

وهكذا أستمرينا في العمل وهو الذي وجدنا فيه مكانا جيدا للاختفاء في أول غداء لناء عند هؤلاء الناس طبخوا لنا الدولمة البغدادية، وطبخ الدولمة في العرف العراقي والبغدادي خاصة يعني إن المحتفى به شخص عزيز، وعند عودة رب البيت من العمل جلب معه صحيفتين من الصحف العراقية هما طريق الشعب جريدة الحزب الشيوعي العراقي، والثورة جريدة حزب البعث، فعمل الثورة سفرة للطعام واحتفظ بطريق الشعب، فأوضح لسالم إن الثورة بعد قراءتها لا تصلح اكثر من سفرة للطعام اما طريق الشعب فيمكن الاحتفاظ بها للتثقف بها والاستزادة من المعلومات التي فيها .

كان اللقاء مثمرا

دأبت على حضور اللقاءات التي نجريها نحن الذين خرجنا من البصرة سوية واعني الرفاق عبد الباقي شنان (ابو وفاء) وعبد الحسن شنان (ابو علاء) والذي سمى نفسه جعفر، وابو أكرم وأبن خال ابو وفاء، جعفر شقيق ابو وفاء كان كادرا عسكريا وفي نفس الوقت كان من ذوي الاختصاصات الصحية، وكان قد حدثنا ذات مرة عن علاقته بصديق له من الموصل إثمه محمود، الذي كان شخصا شجاعا مقداما، يهابه ويحترمه ابناء الموصل وخاصة الأشقياء، في هذا اللقاء تذكر الرفيق جعفر صديقه محمود وأخبرنا ربما يساعدنا محمود في الخروج الى سوريا، ولذلك فإن الرفيق ابو علاء عزم على السفر من بغداد الى الموصل للقاء محمود والاستنجاد به، وهكذا تقرر أن يسافر جعفر وابن خاله الى الموصل لبحث هذه الإمكانية مع محمود، وفي اليوم الثاني سافر الاثنان الى الموصل والتقينا في اليوم الثالث، فكانت أخبارهما مشجعة وطلبا منا الاستعداد للسفر، بدوري أخبرت الرفيق ابو سلام بالتطورات وبلغني إنه عند الوصول الى دمشق علينا التوجه الى مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وأعطاني كلمة الاتصال، التي يتم من خلالها الاتصال مجددا بحزبنا.
في يوم السفر

أوضحت للرفيق ابو وفاء بأن لدي شارة الاتصال، وهيئنا حقائبنا للسفر والأوراق الثبوتية، وكل ما نحتاجه، وتوجهنا الى الموصل منذ الصباح الباكر، وعرفنا جعفر على محمود الذي كان فعلا كما وصفه لنا الرفيق، وكان مع محمود شاب صغير السن هو ابن إخوته الذي قال عنه إن البعثيين يضايقونه وهو سيكون دليلكم ويخرج معكم على ان تعتنوا به في الخارج، وكان اسمه فتحي.

جلسنا في إحدى المقاهي، وتناولنا طعام الغداء في أحد المطاعم وبعد الغداء شرح لنا فتحي خطة سفرنا، وعند الغروب ركبنا سيارة متوجهة الى ناحية ربيعة (تل كوجك) وكان علينا النزول قبل وصولها (السيارة) الى الكمرك، هنا ترجلنا منها وقادنا فتحي باتجاه أرض كانت مزروعة سابقا تغطيها الأعشاب بطول حوالي قدمين، وطلب منا السير بهدوء وحذر وكنا نرى ليس بعيدا عنا بين فترة وأخرى أنوارا لسيارات تسير ببطء، قال إنها سيارات الدورية تراقب الحدود، فجأة ونحن بغاية الحذر انطلقت جلبة من حولنا ووقع أقدام لأناس يركضون باتجاهنا، فعمدنا الى الاختباء بين الحشائش، وحين انجلت الغبرة تبين أن الذي عمل كل هذه الأصوات هو سرب من طيور القطا كانت غافية بين الأعشاب أرعبها سيرنا وهبت طائرة، ومر الأمر بسلام، وواصلنا سيرنا الحذر واجتزنا سكة قطار، هنا قال فتحي نحن الآن بسوريا، واتجه بنا الى بناية من طابق واحد دخلنا فيها و هي عبارة عن فندق في الجانب السوري من ربيعة والتي تسمى اليعربية .

استقبل الرجال الموجودون في الفندق فتحي بالأحضان وسألوه عن محمود، وقدمنا لهم ورحبوا بنا وأرادوا تسجيلنا في دفترهم فقال لهم نحن عبرنا الحدود دون جوزات بشكل غير رسمي، قالوا إذن سيكون هناك حساب آخر .
فطلبوا مبلغ خمسة دنانير عن كل شخص وهو مبلغ كبير، فأسكنونا في مكان تابع الى الفندق، غير خاضع لتفتيش مفارز الحدود التي تفتش في الليل، وأخبرونا إن علينا أن نستقل القطار الى مدينة القامشلي، ومن هناك الى حلب ، ومنها الى دمشق التي وصلناها وانبهرنا بجمالها وعمرانها، وتوجهنا الى مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الكائن في الأزبكية، ورتبوا لنا لقاء مع رفيق من الحزب الشيوعي السوري ووفروا لنا مكانا للسكن في بيت في ركن الدين، وتم الاتصال مع رفيق من حزبنا، وتم عمل هويات فلسطينية لنا وسفرنا الى لبنان .