حلت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري الذكرى الرابعة لإنطلاق انتفاضة تشرين 2019، التي شارك فيها الملايين من العراقيين والعراقيات من مختلف القوميات والأديان والطوائف، والتي مثلت وحدة الطيف العراقي الزاهي، المطالب بحقوقه المشروعة، وفي مقدمتها  الحياة الحرة الكريمة والمستقبل الأفضل، والرافض لمنظومة الفساد والمحاصصة الطائفية والإثنية ونهب أموال الدولة وتقاسم المغانم، مقدماً من أجل ذلك التضحيات الجسام: أكثر من ألف شهيد وشهيدة، وأكثر من ثلاثين ألف جريح وجريحة، من بينهم نحو سبعة الآف معوقاً ومعوقة جسدياً، والمئات من المختطفين والمغيبين.

    وعدا التضحيات الجسام، جوبهت الإنتفاضة والمنتفضين والمحتجين بحملة إفتراءات رخيصة وإساءات شنيعة لا تجيدها سوى الأحزاب الفاسدة المتنفذة.

    لكن أحزاب السلطة ومليشياتها وأبواق إعلامها لم تفلح، رغم كل أفعالها المعادية،  في مسح ما حققته الإنتفاضة المجيدة ونُذكّرُ ببعضه:

 لأول مرة في تأريخ نضالات الشعب العراقي ان ترفع الجماهير بوجه الطغمة الحاكمة، مطلب نريد وطن- يتمتع فيه مواطنوه ببالحياة والحرية والكرامة والمساواة، ويكون اَمناً مستقراً وخالٍ من الفساد والمليشيات والسلاح المنفلت، ومن كافة أشكال العنف والجريمة والإعتداء على حقوق الإنسان..

   ولعل أبرز ما تميزت به إنتفاضة تشرين المجيدة أنها جاءت عفوية، لا وصاية عليها من قبل الأحزاب السياسية، وبعيدة كل البعد عن التحزب والطائفية والعشائرية والتعصب المذهبي والطائفي والقومي.وبذلك لجمت أفواه من إتهموها بأنها "بتحريض" و"بدعم أجنبي"..

   وإستطاعت، برغم إفتقار جماهيرها ونشطاءها للتنظيم وللقيادة الموحدة والمجربة، ان تجسد بأروع الأمثلة هويتها الوطنية الشعبية الشبابية العارمة، وعكست إرادة وتطلع غالبية الطيف العراقي والمواطنين غير المنتفعين من مغانم السلطة، متحدية أشرس هجمة مسعورة من جانب القوى المتنفذة والفاسدة، وإعلامها وأبواقها ووعاظ سلاطينها، التي مارست شتى صنوف الترهيب والتخوين والإفتراءات لتزييف الحقائق وتشويه أهداف الإنتفاضة والإساءة للمنتفضين، الى جانب سعيها المحموم لحرف الإنتفاضة عن مسارها.

    لكن الحملة إرتدت على الطغمة المتنفذة وعرتها على حقيقتها أكثر، ومرغت غطرستها بالوحل.وبعد ان كانت تستنكف عن لفظ تشرين والمدنية، صارت فيما بعد تذكرها مرغمة، وسعت بكل صفاقة الى تشكيلات لها منتحلة لأسم تشرين والمدنية.

   ومن أبرز الدروس البالغة التي أعطتها الانتفاضة هي الثبات والصمود والتحدي ومجابهة القمع الدموي والقتل العمد للقوات القمعية والمليشيات المسلحة والرصاص الحي والقنابل الغازية السامة وبقية أسلحة القتل والشلل والإعاقة، بصدور عارية.

    ورغم ضخامة أعداد القوى القمعية،ووحشية السلاح الفتاك الذي إستخدمته ضد  المتظاهرين السلميين بأمر من الطغمة الحاكمة وصنيعتها حكومة القتلة، وسقوط الآف الشهداء والجرحى والمختطفين والمغيبين. إصتطاعت الإنتفاضة ليس فقط ان تصمد ، وإنما حافظت على طابعها السلمي. وهو ما أبهر العالم بها.

  وقد كشفت الإنتفاضة تواطؤ السلطة التشريعية والسلطة القضائية في جرائم السلطة التنفيذية النكراء.

   وعلى الرغم من عدم تكافئ الفرص والأمكانيات بين السلطة والجماهير المنتفضة، فان الانتفاضة المجيدة هزت أركان منظومة الفساد والمحاصصة الطائفية والإثنية بكاملها، وعرّت رموزها، وارعبتها ا رغم جبروت ما تمتلكه من حمايات ومليشيات وأسلحة ومعدات قمعية رهيبة.

وقد أثبتت شبيبة العراق، من الجنسين، أنها مفخرة الوطن وشعبه، وبرزت بإستعدادها وشجاعتها  وتحديها وصمودها وتضحياتها كإيقونة حقيقية للثورة ونبراس وهاج لها. ومما زادها فخراً وإعتزازاً إندماجها الملحوظ مع روح الانصهار في الوطن، وفي العمل الجماعي، والتضحية والفداء من أجل الوطن والشعب، وبذلك أصبحت الأمل المعول عليه لتخليص العراق من منظومة الفساد والفشل والخراب.

 وفي هذا المضمار،لا تفوتنا الإشادة،أيضاً، بدور المرأة العراقية الكبير في إنتفاضة تشرين،وهي منتفضة على واقعها المزري  الذي تعيشه مع اسرتها وأطفالها من بؤس المعيشة وضآلة في فرص العمل، وضحية للعنف الأسري والمجتمعي، والمعاملة المهينة لكرامتها، الى جانب فقدانها للأبناء والأزواج والآباء والأخوة في خضم الصراعات المنفلتة،والحرب الطائفية،والإرهاب،وإنتشار العصابات، كاسرة  حاجز الخوف، محطمة قيود العادات والتقاليد المجتمعية البالية، التي تمنع تمكينها وتهميش دورها في المجتمع، وتعيق نضالها من أجل حياة كريمة ومستقبل أفضل، مسجلة أروع صور البطولة والفداء والتضحية، فكانت المتظاهرة والمحتجة والطبيبة والمسعفة والمعلمة والمثقفة وحمامة السلام ورائدة السلمية.

 والدرس الآخر المهم ان الانتفاضة بينت بجلاء بأن شعبنا قادر على كسر احتكار السلطة، وإذا ما إستعد أكثر فبإمكانه ان يحقق طموحه بالخلاص من منظومة العار، وإقامة دولة  المواطنة والحرية والديمقراطية الحقيقية والحياة الكريمة والعدالة الإجتماعية، دولة الرفاهية والأمن والإستقرار والمؤسسات الدستورية والقانونية.

   وان المواطنين يرفضون بعد هذه السنين العجاف من سلطة الفساد المالي والإداري والمحاصصة وتقاسم أموال الدولة المنهوبة،ونشر الفقر والجهل والتخلف، يرفضون العيش كما في السابق، ويريدون حياة أفضل ومستقبل سعيد، ومن أجل كل ذلك ستندلع الثورة العارمة لا محال، وسيتحقق التغيير الجذري والشامل، طال أمده أم قصر.

    وأكدت الأنتفاضة ان الحكام الستبدين لن يتمكنوا أمداً أطول بالاستمرار في الحكم بالمنهج والأساليب ذاتها. فقد كشفت الأنتفاضة فشل المنهج المتبع في إدارة الدولة والحاضن للفساد والفاسدين، وحالة الاستقطاب الحاد في المجتمع ودرجة الاحتقان فيه. وفشل السلطة الذريع في إدارة الدولة وفي الإعمار والبناء،وهي المسؤول الأول والأخير عن الدمار والخراب في كافي مناخي الحياة والذي يعم أرجاء البلاد. وشددت الأنتفاضة على ان المطلوب ليس تطويق الأزمات واحتواءها، بل إيجاد حلول جذرية لها، بما يؤمن التصدي لأس الأزمات، أي منظومة المحاصصة والفساد، والقضاء علىيها تماماً.

   ولقد أوصلت الإنتفاضة المجيدة رسالة وطنية واضحة وضوح الشمس، بدعوتها الى المواطنة الجامعة، المواطنة الحقة، المواطنة العابرة للقوميات والطوائف والأديان والتخندقات الفرعية والمناطقية.

    وبذلك  استحقت إنتفاضة تشرين المجيدة كل الإستحقاق موقعها الطبيعي بين اكبر مآثر شعبنا النضالية في تاريخه الحديث، وتستحق ان تُحيا ذكراها اليوم، وأن يُمجد شهداؤها، وان تتجدد المطالبة القوية بانصاف عوائل الشهداء والمعوقين جسدياً، وبالكشف عن القتلة والجهات التي وقفت خلفهم،وتقديمهم الى القضاء العادل.

   وقد أعطت إنتفاضة تشرين، ومعها الحركة الاحتجاجية منذ شباط 2011 وحتى اليوم، تجارب نضالية  بالغة في انجازاتها ودروسها، جديرة بالدراسة المعمقة وإجراء مراجعة مسؤولة لمساراتها واستخلاص العبر من تجربتها، لجهة ردم الثغرات ومعالجة النواقص ، وتأمين صحة وسلامة الشعارات المرفوعة وواقعيتها والابتعاد عن العدمية في المواقف، والبحث الجدي في تنسيق الخطوات والشعارات والأساليب النضالية. كذلك العمل من أجل انبثاق الأطر القيادية الجماعية في كل ساحة.

    وهو ما يستوجب من قوى التغيير الديمقراطية وكل المواطنين الطامحين للخلاص من منظومة السلطة الجائرة، التوجه الجاد والعاجل للمشاركة الجماعية في إجراء مراجعة جدية للإيجابيات والسلبيات التي رافقت الإنتفاضة وما بعد إخمادها. ولابد من ان تستمد كافة القوى الخيرة الدروس والعبر منها.

 والوفاء لدماء شهداء تشرين الأبرار وتقديراً وإحتراماً لتضحيات الآلاف من التشرينيين، يستوجب التحرك من جديد وعلى نحو أفضل من أجل توحيد الصفوف والكلمة وتدارس سبل تجديد الإنتفاضة وعودة وهجها.

   على كل من يريد حقاً وفعلآ مواصلة المسير حتى تحقيق كامل اهداف الإنتفاضة في التغيير الشامل ودحر منظومة المحاصصة والفساد، وبناء دولة المؤسسات والقانون والمواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية،  وتأمين الحياة الحرة الكريمة والمستقبل الأفضل لكافة العراقيين والعراقيات،كباراً وصغاراً، ،ان يشارك في التحرك المطلوب .

  واَن الأوان ليدرك جميع العراقيين الخيرين أنه لا خلاص من منظومة المحاصصة والفساد والمليشيات والسلاح المنفلت وجرائم القتل والإعتداء، وإنتشار الفقر والبطالة، وتردي الخدمات العامة، وإنعدام الأمن والإستقرار، إلا بتوحيد كافة القوى العراقية الخيرة، المدنية والوطنية الديمقراطية والتشرينية والناشئة، بالتنسيق والتعاون مع الأتحادات والنقابات وبقية منظمات المجتمع المدني،التي شاركت في ثورة تشرين، كالمحامين والمعلمين والأكاديميين والمهندسين والأطباء وذوي المهن الصحية والنساء والطلبة والعمال والفلاحين والصناعيين والتجار النزيهين.

  ولعل أول ما ينبغي القيام به في المرحلة الحالية هو تناسي الخلافات الثانوية، وتغليب المصلحة العليا للوطن والشعب على المصالح الذاتية، والإتفاق على ضرورة عقد مؤتمر يجمع كافة هذه القوى، ويكون من أجل وحدة صف كافة قوى التغيير الوطنية والديمقراطية. والإتفاق أيضاً على برنامج عمل جديد وتحديد الأهداف وسبل تحقيقها.

   ولن يتحقق كل ذلك بالتمنيات والرغبات الطيبة، طبعاً، وإنما بتكثيف الجهود النضالية الجماعية المشتركة، المثابرة والدؤوبة،التي هدفها توحيد قوى التغيير الجذري والشامل، المدركة جيداً لأهمية وضرورة الوحدة والتنسيق والعمل الجماهيري المشترك، كضمانات أكيدة لأنتصارها.

   والمطلوب لضمان نجاح التحرك المنشود، الإبتعاد وعدم السماح بممارسات ليست من شيم المناضلين الوطنيين والديمقراطيين الحقيقيين، كالتخوين، والإساءة للآخرين، والتكبر والتعالي على نظرائهم،والتمسك بالرأي حتى لو كان خاطئاً، وعدم إحترام الرأي الآخر. بالمقابل، وضمن الشيم الحميدة، لابد من الإعتذار لكل من جرى الإعتداء عليه أو الإساءة إليه من الشخصيات الوطنية والسياسية والقانونية، دون وجه حق.

   وإستطراداً،ينتظر القوى الخيرة والحريصة عمل هام وكبير، يستلزم، من بين ما يستلزم، وقفة جديدة، تحرك مدروس، أكثر جدية وفاعلية، نحو أصحاب الموقف السلبي والأناني " ما عليّه "، وهم للأسف غالبية العراقيين المتضررين من المنظومة الحاكمة الفاسدة، المواصلين للتفرج والصمت على ما يجري من إنتهاكات سافرة لحقوق الإنسان، بما فيها حق الحياة والصحة والعيش الكريم، والتضييق على حرية الرأي،وجرائم إرهاب الحركة الشعبية الإحتجاجية بالقتل والإختطاف والتعذيب والتغييب، تنفيذاً لمقولة كبيرهم: " أخذنا السلطة وبعد ما ننطيها"، وتمسكاً بهذا النهج الأرعن فرضوا سلطة الإستبداد والإستهتار والهيمنة على مقدرات البلد، والإستحواذ على جميع مؤسسات الدولة، وشجعوا إستشراء الفساد والمحسوبية والمنسوبية، ونهب المليارات، ودمروا الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة الوطنية، مهددين الأمن الغذائي للعراقيين، محولين العراق الى بلد مستورد حتى للخضروات والفواكه، لصالح الدولة سيدتهم..

 ونتيجة كل ذلك، كما يقر القاصي والداني، تزايد نسب الفقر والبطالة وقلة فرص العمل، الى جانب إنحطاط التربية والتعليم، وتردي الخدمات العامة،خاصة الصحة والكهرباء ومياه الشرب،وتفاقم المشاكل البيئة الساخنة،أكثر فأكثر، والحكومة عاجزة، لكنها "ناجحة" بالوعود المعسولة و" الإنجازات" المزعومة..

 ومع ان مجالس المحافظات أثبتت بأنها جزء هام من منظومة المحاصصة والفساد ونهب أموال الدولة وهدر المال العام، ولم تقدم طيلة فترات وجودها شيئاً للمواطنين لقاء المليارات التي أُنفقت عليها، بينما يعيش المواطنون في فقر مدقع، وبغض النظر عن الموقف من عودتها، سلباً أو إيجاباً، وأنا شخصياً من ضمن ملايين العراقيين الرافضين لعودتها.. مع هذا، أرى أنه يمكن لقوى التغيير الوطنية والديمقراطية الحية إستغلال فرصة حملات الدعاية لإنتخابات مجالس المحافظات، الجارية حالياً، لغرض الوصول الى الجماهير العريضة في مناطق سكناها، وإختيار خطاب مناسب موجه لأصحاب اللاأبالية والتفكير الأناني العقيم "ما عليه" والصمت والتفرج، ليفهموا أن مثل هذه المواقف ليست من شيم العراقيين الأصلاء، الذين لم يخنعوا على مر التأريخ للحكام الطغاة والدكتاتوريين والمتسلطين على رقاب الشعب، ولم يسكتوا  على إذلالهم وإهانة كرامتهم وإنتهاك حقوقهم، وناهبي أموال الشعب، أموالهم..

فلابد ان يعلم هؤلاء بكل صراحة ووجهاً لوجه ان من يتمسك بموقفه السلبي المؤلم والمخجل بالتفرج على ما يحصل في العراق  حالياً إنما هو ليس فقط يتجاهل ما حصل ويحصل من جرائم وظلم وجور من قبل الطغمة الحاكمة، مع أنه وعائلته وأطفاله يعيشون في المعمعة ومن ملايين العراقيين المتضررين، وإنما بتفرجه وسكوته يُعتبر شريك المجرمين، وبالتالي فهو قابل بالطلم والجور وبحياة الذل والمهانة..

  ان المهمة تتطلب تكثيف الجهود والمساعي الرامية ليدرك البسطاء والسذج من المواطنين، بان الطغمة الحاكمة وأبواقها تضحك على ذقونهم وتستغفل عقولهم، وان صمتهم ولا أباليتهم هي من  شجعها ويشعها على مواصلة تسلطها وجورها وإستهتارها وفسادها وهيمنتها على مقدرات البلد، والنتيجة الحتمية: إفقار غالبية العراقيين وإذلالهم وإهانتهم، وإرجاع العراق للوراء خمسين عاماً.

    وإذا إستمر أصحاب المواقف السلبية على مواقفهم المحزنة والمؤلمة، التي تطيل من أمد بقاء منظومة الفساد والنهب وتقاسم المغانم جاثمة على صدور العراقيين، فلن يحلَّ قريباً اليوم الذي ستنعم فيه عوائلهم وأطفالهم بحياة حرة كريمة ومرفهة، ولن ينتظرهم غير المزيد من السوء !

عرض مقالات: