انقسم اليسار كما انقسم العالم بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب المستمرة هناك. وبعيدا عن المواقف أحادية الجانب التي تحاول اسقاط عجز أصحابها عن فهم طبيعة الحرب، وبالتالي تسقط في أوهام "بوتين المنقذ"، او "تجربة اشتراكية" جديدة قد تولد على أنقاض هذه الحرب، كما بشر بعض "الماركسيين".

ولهذا ربما من المهم عرض رؤية أوساط اليسار التي ما زالت تلتزم بالرؤية الأممية عن الحرب وطابعها عبر طرح عرض مكثف لرؤيتها لثلاث أسئلة (جوانب) في النقاش الدائر والمتحرك في أوساط اليسار في ضوء تطور مسار الحرب وتأثير الاحداث المحلية والدولية المرتبطة بها.

الصراعات السابقة لا تبرر الغزو الروسي

لا جدال في أن روسيا بدأت هذه الحرب غير الشرعية عندما غزت قواتها أوكرانيا في 24 شباط 2022. لذا فإن مسؤولية اندلاع الحرب تقع على عاتق روسيا وحدها. إن الإشارة إلى ما سبق الغزو، والمرتبط ارتباطًا وثيقًا بتوسع حلف الناتو شرقا، وسياسة الجوار، التي تحركها مصالح الاتحاد الأوروبي، ليست "لكن" نسبية، بل تساهم في فهم ديناميكيات الحرب الحالية. ويشمل ذلك أيضًا النظر في مدى تغير ميزان القوى الجيوسياسي بعد انهيار البلدان الاشتراكية السابقة. بينما فقدت روسيا الكثير من تأثيرها الاقتصادي والسياسي الخارجي خلال الثلاثين عامًا الماضية، أصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة المؤثرة عالميًا بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه، يهدد الصعود الاقتصادي السريع للصين تفوق الولايات المتحدة. ويواجه الاتحاد الأوروبي معضلة اكيدة: التوازن الحقيقي للقوى يدفعه باتجاه تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة، بينما تسعى في الوقت نفسه النخب الأوروبية لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال، بما في ذلك في القطاع العسكري، لأن الولايات المتحدة ليست الضامن الموثوق به لمصالح الأوربيين. ان الحرب في أوكرانيا تعزز كلا الاتجاهين. ومن هنا على اليسار الأوربي عدم الاصطفاف مع أي من الجانبين، بل تحليل الحرب على خلفية هذه المتغيرات الجيوسياسية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها فهم سبب فشل جهود السلام والمفاوضات في الأشهر الأولى للحرب، ولماذا هناك حاجة لمزيد من الضغط الشعبي لإنهائها.

تصدير الأسلحة يطيل امد الحرب

من الضروري ملاحظة: بعد وقت قصير من اندلاع الحرب تغير الجدل بشأن تزويد أوكرانيا بشحنات السلاح. في البدء استبعدت الحكومة الألمانية مثلا، تصدير أسلحة ثقيلة، وسرعان ما تغير الحال وصارت المناقشات تدور حول تسليم أسلحة بعيدة المدى وطائرات مقاتلة. ومن الطبيعي ان ترتبط هذه المناقشات بمصالح جيوسياسية بعينها. وهذا ما عكسته مناقشات مؤتمر ميونيخ للأمن، والمناقشات في البرلمان الأوروبي. لقد بينت هذه المناقشات أن الغرب لم يعد، منذ فترة طويلة، مهتما بحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس، بل أن أوكرانيا يجب أن تربح الحرب وتضعف روسيا على المدى الطويل. ووفقًا لمشروع قرار اعتمده البرلمان الأوروبي اخيرا بأغلبية كبيرة، يمكن تحقيق هذا الهدف فقط " من خلال إمداد أوكرانيا المستمر والدائم والمتزايد بالأسلحة من جميع الأنواع، ودون استثناء". ودعت الدول الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي إلى "زيادة دعمها العسكري بشكل كبير" لأوكرانيا و "التفكير بجدية" في نشر طائرات مقاتلة. حتى أن وزير الخارجية الأوكراني كوليبا دعا إلى ارسال الذخائر العنقودية والأسلحة الفوسفورية الحارقة، وهو ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الامريكية الآن. وتغير الجدل كذلك بشأن سياسة العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي. والتي يجب ألا تُفرض على روسيا فقط، بل أيضًا على دول ثالثة "تتعاون مع روسيا". لقد تغيرت المناقشات داخل الاتحاد الأوروبي أيضًا، لأن دول الاتحاد الأوروبي ليست جهات فاعلة محايدة، بل تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة في هذا الصراع وتسعى جاهدة لتحقيق نصر واضح لأوكرانيا مع تغيير النظام لاحقًا في موسكو. ويمكن أن يؤدي هذا التطور إلى جعل مسار الحرب خارج السيطرة. اشارت أخيرا قناة "سي ان ان" الإخبارية الامريكية، نقلاً عن مصادر استخباراتية، إلى أن أوكرانيا هي أيضًا „مختبر أسلحة" تدرس الولايات المتحدة فيه، كيفية تجهيز الحروب بين دولتين صناعيتين في القرن الحادي والعشرين.

ان تصدير المزيد والمزيد من شحنات الأسلحة لا تنهي الحرب، بل تجعل السلام مستقبلا بعيدا، ولا يمكن السيطرة على الموقف المتصاعد، كما بينت تطورات العام الفائت. لقد دفع هذا الواقع، حتى العسكريين الى التحذير من زخم في النقاش الدائر، والذي قد يؤدي في نهايته الى مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا. وفي هذه الاثناء، يستمر ارتفاع عدد القتلى من الجنود الروس والأوكرانيين وبين المدنيين الأوكرانيين. المئات يفقدون حياتهم كل يوم.

شرعية المطالبة بالمفاوضات وانهاء الحرب

ان مشروعية المطالبة بالجلوس الى طاولة المفاوضات تستند الى حقيقة مفادها: ان هذه الحرب لن تنتهي بدون مفاوضات سلام. وإن رفض مفاوضات السلام وتعزيز ترسانة أسلحة أوكرانيا باستمرار يعني القبول باستمرار تدمير أوكرانيا، واستمرار تعريض أرواح سكانها للخطر.

إن مطلب تعزيز المبادرات الدبلوماسية لا يطرحه ناشطو السلام وقوى اليسار فقط، بل يمكن سماعه مرارًا من مختصين في العلوم السياسية، وكبار العسكريين. على سبيل المثال، تحدث جنرال الناتو السابق، هارالد كوجات، مرارا لصالح وقف إطلاق النار ومحادثات سلام، مشيرًا إلى أن ثمن السلام، سيتضمن حياد أوكرانيا ورفض نشر قوات أجنبية، ربما يكون مصحوبا بتنازلات مرتبطة بمناطق لوهانسك ودونيتسك. يستمد كوجات تقييمه هذا بشكل أساسي من مسار محادثات اسطنبول في اذار 2022. في ذلك الوقت، قيل إن الجانب الروسي وافق على سحب قواته إلى حدود 23 شباط. لا يمكن التأكد من ان هذا الخط الوسط لا يزال مناسبًا اليوم إلا على طاولة المفاوضات المرجوة. بالإضافة الى ذلك فان اغلب مشاريع السلام المقترحة من الصين وبعض دول البريكس وماليزيا، وكذلك تؤشر محاضرات العديد من المختصين في قضايا الحرب والسلام ت هذا الاتجاه أيضا، ويضيف بعضها استفتاء عام بعد 5 او 10 سنوات، بأشراف الأمم المتحدة لسكان المناطق المتنازع عليها ليقرروا الانضمام الى روسيا او أوكرانيا.

وان مفهوم "العدوانية السلمية"، أي توظيف الحرب كوسيلة لفرض السلام أصبح مثار جدل حتى داخل بعض أوساط اليسار وحركة السلام التي لا زالت تدعم فكرة تصدير الأسلحة لأوكرانيا، ارتباطا بتزايد القناعة، بان تصدير السلاح وخصوصا الهجومي يؤدي الى إطالة عمر الحرب. وكذلك يلتقي المفهوم مع المنظومة الفكرية للتيارات الليبرالية في المعسكر الغربي، مثل ما قاله كارل هاينز باك، رئيس مؤسسة فريدريش ناومان التابعة للحزب الليبرالي الحر الألماني، بعد وقت قصير من بداية الحرب: "لا يجب أن تعود النزعة السلمية (غير المشروطة) إلى الظهور مرة أخرى". ما يعني توسيع وتعزيز التحالفات العسكرية على أساس قيم الناتو، وبالتالي فان المطلوب فرص جديد لحلف الناتو وليس فرصا للسلام في أوكرانيا.

ان على اليسار الاهتمام الجدي بجميع المبادرات التي تدعو الى السلام وان اختلفت مع تناول الكثير من التفاصيل المتعلقة بالحرب، لان هذه المبادرات تعبر عمليا عن استياء أوساط من السكان ورفضها لاستمرار الحرب.

*- نشرت لأول مرة في جريدة المدى العراقية في 12 تموز 2023

عرض مقالات: