اخذ المتظاهرون يتوافدون من كل صوب وحدب الى ساحة التحرير رغم الموانع التي وضعتها الحكومة وقواتها الأمنية للحيلولة دون وصول المتظاهرين الى الساحة، فهم لا يحملون معهم الا قلوباً ملأى بحبهم بلدهم وأمنيات متواضعة يحلم بها كل مواطن .

أليس من حقهم أن يحصلوا على فرصة عمل، وأن يعيشوا في بلد مهاب، ويحصلوا على لقمة شريفة لهم ولعوائلهم وأبناء وطنهم؟ أليس من حقهم ان ينعموا بخيرات بلدهم وبشيء من العدالة الاجتماعية !؟

فميزانية الدولة جلها من نصيب الرئاسات الثلاث واصحاب الدرجات الخاصة ،وهم محرومون من العيش في سكن لائق  وخدمات تليق بالإنسان ،فالماء الذي يصل بيوتهم لا يصلح للشرب، تعافه النفس، والكهرباء لمجرد سويعات لا اكثر ،وتعليم بائس  وخدمات صحية يرثى لها  ،بينما العراق يطفو على اكبر بحيرة نفط ويصدر يومياً 4 ملايين برميل وميزانيته تصل الى 150مليار دولار سنوياً تذهب معظمها الى جيوب الفاسدين المتنفذين دون رقيب او حسيب .

هكذا جسّد المتظاهرون مطالبهم بشعارات سلمية ،جلهم من الشباب ، دافعهم وتحدياتهم مبعثها احتياجاتهم والظلم الواقع على بلدهم وشعبهم وما يعانونه في حياتهم اليومية من ضنك العيش .لم يكونوا متآمرين او مدفوعين من جهة خارجية، وليسوا بعثيين كما وصفتهم الحكومة وبعض اقطابها .فهم في ريعان شبابهم ولم تتجاوز اعمارهم ايام النظام السابق مرحلة الابتدائية، وآخرون جاءوا الى الدنيا بعد سقوط النظام. فمن اين جاءتهم البعثية؟ والحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام حتى الآن هي من احتضنت قياديين من البعث في مؤسساتها واحزابها المتنفذة على قول من دخل بيت ابي سفيان فهو آمن .

المتظاهرون يهتفون بشعاراتهم وهي ترج اطراف الساحة ،والقوات الامنية متأهبة بكامل صنوفها تحاصرهم بقوات سوات "ومكافحة الشغب"، وهناك من يحمل البنادق والهراوات، وطائرات تحلق في السماء فوق رؤوسهم .

وما ان أخذت السيارات الحوضية توجه خراطيمها لتمطرهم بالماء الحار، وبينما الغازات المسيلة للدموع قد أشبعت الاجواء، اشتد هتاف وصيحات وغضب الجماهير السلمي ،والتحم الطرفان .وكان المتظاهرون اكثر استعداداً للمواجهة السلمية بقلوب عامرة وبصدور عارية الا من الايمان بقضيتهم  والدفاع عن وطنهم المستباح ومطالبهم العادلة وهم يرددون شعار "سلمية.. سلمية " يلوّحون برايات الوطن حتى سقط شهيد من بينهم بإطلاقة قناص كان كامناً لهم في  اعلى احدى البنايات القريبة من الساحة. فتصاعد غضب الجماهير وهم يحملون شهيدهم مضرجاً بالدماء، حتى اخذت القوات الامنية تعزز قواتها اكثر فاكثر حتى استطاعت ان تخترق جدار المتظاهرين ، فتفرقت بعض حشود المتظاهرين وتراجعت الى داخل الازقة القريبة من الساحة، فسقط شهيد آخر وشهداء آخرون في المجزرة التي اشتد وطيسها بين جبهتين غير متكافئتين .

كان هناك متظاهر في الثلاثين من عمره لم يتزحزح من مكانه عند اختراق القوات الامنية جدار المتظاهرين ، وهو يحمل العلم العراقي. توجهت اليه شلة من العسكر وهم يحملون الهراوات والاسلاك فانهالوا عليه بالضرب المبرح وهو ثابت في مكانه ،اخذ الدم يسيل من كل اجزاء جسمه حتى سقط على الارض وما زال العلم في قبضته. ولم يكفهم هذا ، وهم يتكالبون عليه بالمزيد من الضرب على جسده ، يركلونه بأرجلهم على بطنه ورأسه وهو ملقى على الارض بين الحياة والموت والعلم ما زال لصيقاً في قبضته. حاولوا انتزاع  العلم منه فلم يتمكنوا ،كأن العلم  نفسه قد استحال الى قوة جبارة تأبى ان تحمله الا القبضات الطاهرة النزيهة والصادقون بولائهم لوطنهم وشعبهم،  حتى لفظ انفاسه الاخيرة ،وظلت راية الوطن في قبضته شامخة فخورة بمن ضحى ويضحي في سبيل الوطن وشعبه.

سلاماً دماء الضحايا... مجداً شهداء العراق.

عرض مقالات: