ليس جديداً القول : أن الأحزاب اليسارية العربية،  ومنها بوجه خاص الأحزاب الشيوعية ،  ما فتئت تمر بظروف صعبة لإعادة ولملمة صفوفها من جديد من أجل إعادة بنائها واستعادة نفوذها السياسي والجماهيري في ظل عملها الطويل تحت الأرض وجراء ما مرت به من مصادرة لحقها في العمل السياسي المشروع وضربات متتالية موجعة من قِبل الإنظمة الدكتاتورية ، وقد أزدادت هذه الظروف صعوبة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود خلت . وعلى الرغم من المراجعات العلنية والصريحة التي جرت ومازالت تجري لتصحيح مسيراتها  السياسية منذ تأسيسها وما وقعت فيه من أخطاء ، ومنها ارتباطها المديد بالمركز لأول تجربة اشتراكية في تاريخنا المعاصر ممثلةً  في الاتحاد السوفياتي إلا أن معظم الأحزاب الشيوعية ما فتئت تراوح مكانها .

بيد أن في العراق توافرت ظروف موضوعية للحزب الشيوعي العراقي  بعد إسقاط نظام الدكتاتور العراقي صدام حسين على إثر الغزو الاميركي للعراق العام 2003 ، وبالمثل في السودان فقد ترشحت ظروف مستجدة على إثر إنتفاضة الشعب السوداني المباركة والمتفجرة منذ ديسمبر كانون الاول الماضي ، وهكذا بدا أن الحزبين الشيوعيين العراقي والسوداني اليوم هما من أكثر الأحزاب الشيوعية العربية تأهلاً لإستعادة نفوذهما الجماهيري .

في العراق برز الحزب الشيوعي العراقي إلى العلنية فور سقوط النظام ، وانتزع وجوده الشرعي وأصدر صحيفته العلنية " طريق الشعب " سريعاً ، وطالب وناضل من أجل رحيل المحتل الاميركي ، وأضحى الحزب رغم الموجات الارهابية التي اجتاحت العراق على أيدي الجماعات المسلحة بدعم من الاحتلال الامريكي والانظمة الرجعية الموالية له  في المنطقة يستعيد شيئاً من عافيته ورقماً صعباً في المعادلات والتسويات السياسية ، وشهد له القاصي والداني بنزاهته وتجرده في العمل السياسي بما في ذلك مما توافر له من فرص للعمل في السلطتين التشريعية والتنفيذية  ، وكان من أبرز القوى السياسية التي كشفت خطورة المحاصصة الطائفية وما توافره من بيئة مفرّخة للفساد والإفساد للقوى الإسلاموية التي تحتكر وتتناوب على هذه المحاصصة . كما لعب الحزب الشيوعي دوراً مشهوداً في كل الاحتجاجات والحراكات المطلبية الجماهيرية وبخاصة خلال السنوات الثلاث الماضية ، ولذا لم يكن غريباً أن يحظى بثقة الناخبين في الانتخابات التشريعية التي جرت العام الماضي في مثل هذا الوقت تقريباً ويفوز بمقعدين انتخابيين رغم كل الحملات التخريبية والتشويهية المغرضة التي حاولت أن تنال من سمعته وسمعة مرشحيه وما صاحب حملاته الانتخابية من أعمال تخريبية لم تقتصر على المحافظات التي ترشح فيها مناضلون من منتسبيه بل طاولت حتى محاولة تفجير مقره الحزبي في العاصمة بغداد .

أما في السودان فإن الانتفاضة الجماهيرية السودانية الراهنة التي بدت الأكثر تأهلاً لتكللها بالإنتصار المؤزر ؛ وإذ بدا أن واحداً من أبرز مزايا ثورات ربيع العام 2011 إضطلاع الشباب الوسطي المعتدل المستنير بها معتمداً على قواه الذاتية وموظفاً بذكائه وسائل التواصل الإجتماعي  ، فإن الاحزاب اليسارية وعلى الأخص الحزب الشيوعي لم يكن منكفئاً أو غائباً عن الصدارة في هذه الانتفاضة ضمن تحالف قوى التغيير والحرية ومن ثم لم تعد ثورة الشباب هذه المرة فريسة سهلة لمناورات الأنظمة العربية وخُبثها كما جرى في انتفاضات الربيع العربي المُجهضة مطلع العقد الجاري ومن ثم احتوائها  وإجهاضها تدريجياً والإجهاز على ما حققته من مكتسبات بفضل تضحيات أولئك الشباب وما بذلوه من وأرواح ودماء لأجل تكللها بالإنتصار  ، جنباً إلى جنب مع تمكن  قوى الإسلام السياسي اختطاف تلك المكاسب وركوب الموجة بإطروحاتها وشعاراتها المتطرفة لاسيما الإخوان المسلمون كما حدث في مصر والتي سهلت وأعطت الانظمة العسكرية ذرائع للعودة من الشباك للحكم والقضاء المبرم على كامل تلك المكاسب والإنجازات التي حققتها ثورات الشباب . 

وإذ جاءت الانتفاضة الشبابية في 17 ديسمبر / كانون الأول 2019 الماضي متوافقة  مع الذكرى التاسعة لانتفاضة الشعب التونسي في نفس التاريخ من العام 2010 فإن نضالات منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة ، حتى على رغم ضعفها وما عانت منه من ضربات النظام المتوالية لم تكن غائبة نهائياً من حيث تأثيرها ووزنها في الساحة السياسية ؛ وعلى الأخص أحزاب اليسار ، وفي القلب منه الحزب الشيوعي ، ومنظمات المجتمع المدني والنقابات التي له تأثير فيها ، ومن ثم فقد تمكنت هذه المنظمات في أن تكسب ثقة الشباب المنتفضين وأن تعبّر سريعاً عما يجيش في صدورهم من تطلعات ومطالب للتغيير السياسي وتوظيف خبراتها السياسية المتراكمة منذ نحو ستة عقود ونيف منذ الاستقلال في متناول أيدي الشباب المنتفضين  ، وصولاً إلى صياغة مطالبهم بصورة منظمة ومدهم كذلك بأساليب وطرق احتجاجاتهم السلمية التي تجاوبوا معها  ، سواء باتجاه التصعيد أو باتجاه التفاوض والمرونة مع المجلس العسكري الانتقالي الذي حل  محل الدكتاتور المخلوع الجنرال الإسلاموي عمر البشير الذي تربع على كرسي الحكم ثلاثة عقود متصلة وسرعان ماتظاهر شركاؤه في الحكم داخل المجلس انتقالي بكشفهم حجم الفساد المذهل الذي كان وحاشيته متورطون لتملق الجماهير وكسب ثقتها  . 

وبات تأثير الحزب الشيوعي السوداني في الحراك السياسي السوداني ملموساً للقاصي والداني ، بما في ذلك متابعة وسائل الإعلام العربية والعالمية لبياناته كمصدر مهم من مصادر متابعة هذا الحراك الجماهيري وتحالف  قوى الحرية والتغيير الذي فرض نفسه على النظام للتفاوض معه كمعبّر شرعي عن الإنتفاضة رغم كل محاولات المجلس الانتقالي المكابرة لنزع منه هذه الصفة ولو على الأقل الاعتراف به بصفته أبرز  القوى الأساسية المعبرة عن الحراك الجماهيري ، وأصبح لا يتورع عن الخضوع لتدخلات الإنظمة  والقوى الإقليمية العربية التي لا تخفي قلقها من تكلل انتفاضة الشعب السوداني بالإنتصار التام والتدخل السافر للتأثير عليهاوإجهاضها كما حصل في مصر وليبيا واليمن وأقطار عربية اخرى في الخليج العربي والمنطقة ومن ثم إستعانته بها لمواجهة قوى الإنتفاضة والتغيير . 

ومع أن الحزب الشيوعي السوداني هو من الأحزاب الشيوعية العربية التي نشأت حديثاً نسبياً قياساً بشقيقه الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس في أوائل ثلاثينات القرن المنصرم ، إذ يعود جزء رئيسي  من جذور نشأة الحزب الشيوعي السوداني  إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي إبان انضمام حلقة من الطلاب السودانيين في القاهرة إلى حركة " حدتو " اليسارية المصرية  ، إلا أنه سرعان ما قوي عوده وأصبح واحداً من أقوى الأحزاب اليسارية في العالم العربي ولم تفلح كل محاولات شيطنته وتكفيره من قِبل الانظمة الدكتاتورية العسكرية المتعاقبة ولا من قوى الثورة المضادة إبان الانتفاضات الشعبية المتوالية ، فقد كان قادته قريبين إلى نبض الشارع والشعب السوداني وتقاليده وثقافته الدينية وجزءاً أصيلاً لا يتجزأ من فئات الشعب غير متعالين على ثقافته وموروثه الدينيين اللذين يتميز  بهما هذا الشعب العربي المسلم  . وهو يشبه في ذلك إلى حد كبير شقيقه الحزب الشيوعي العراقي في استيعاب وإدراك هذه الحقائق على الأرض وعدم القفز عليها ، وكلاهما كانا قد بلغ في درجة بأسهما السياسي ونفوذهم الجماهيري حتى في صفوف القوات المسلحة ، فالعراقي كان بإمكانه من خلالها استلام السلطة في عهد عبد الكريم قاسم ( 1958 - 1963) والسوداني تمكن ضباط موالون له من اسقاط حكم الدكتاتور جعفر نميري واستلام السلطة تقريباً لمدة ثلاثة أيام  في يوليو / تموز 1971 لولا اجهاض حركتهم بتدخل سافر من نظامي أنور السادات ومعمر القذافي الدكتاتوريين لإنقاذ نظام حليفهم الجنرال نميري مما مكنه لاحقاً من الانتقام من الحزب الشيوعي شر انتقام حيث أقدم على إعدام الشخصية المناضلة الفذة ممثلة في القيادي المؤسس عبد الخالق مججوب والقيادي النقابي الكبير في الحركة العمالية السودانية والعربية والعالمية شفيع الشيخ ، وإذ نذّكر بهذه الحقائق بصرف النظر عن تقييم خطوة الاستيلاء على السلطة من خلال الإستعانة بنفوذ الحزب داخل القوات المسلحة .   

وبهذا يمكننا القول بشيء من الحذر أن تكلل الانتفاضة الشعب السوداني الراهنة باتت قاب قوسين أو أدنى أو لنقل مسألة وقت ، وأن فرص المناورة أمام المجلس العسكري الانتقالي السوداني باتت تضيق ولم  يبق من خيار أمامه سوى  التسليم الكامل لمطالب الجماهير المنتفضة وتحالف قوى  التغيير  المعبرة عنه دون البحث عبثاً عن محاصصة له تكون له اليد الطولى في تقاسم السلطة الإنتقالية ومن ثم التوهم بأن تسوُل له نفسه بعدئذ بأن ينفرد بالسلطة مجدداً بعدما ضاقت الجماهير ذرعاً من كوارث الإنظمة العسكرية المتعاقبة منذ إستقلال السودان  . 

 

 

عرض مقالات: