كان يوما قائظا. انتابه إحساس بضيق صدر وشيء من كدر. لهاثه كان مسموعا. راح يغذ السير نحو أقرب منطقة يستطيع الحصول فيها على واسطة نقل توصله إلى البيت، حين حوصر بمجموعة رجال، عند الطرف الجنوبي لشارع حيفا القريب من الزقاق الذاهب نحو جسر الشهداء وسط بغداد. رفعوا جسده الناحل بخفة وسرعة فائقتين، ودفعوا به نحو حوض سيارة مظللة رباعية الدفع. كانوا غلاظا فجين، تصدر عنهم رائحة غريبة، كأنها خليط من عفن ورائحة مقززة لبخور عتيق رخيص. منذ اللحظة الأولى وجهوا له سيلا هادرا من شتائم. كان قد عرف دوافعها مسبقا، لذا لم ينبس بكلمة للرد.

تخيل ما سوف يحدث قبل قدومهم المباغت هذا. فليس من المناسب أن يستسلم لهم طواعية، لذا وضع في تفكيره سيناريو للمواجهة المحتملة، استحكامات يجب عليه اتخاذها. ممكن أن يكون هناك اشتباك وصراع بالأيدي، ومن الجائز أن يترافق بإشهار أسلحة، عندها سيدافع عن نفسه بأقصى ما يستطيع، ولن ينقاد لهم بسهولة، تلك كانت نواياه وهو يجهز نفسه لمغامرة ترك ساحة الاعتصام في ساحة التحرير.

كان اختطافه متوقعا، لذا كان يتوجس خيفة أن يؤخذ غدرا، دون حدوث مواجهة حقيقية مع الخاطفين. فقد وجهت له العديد من رسائل التهديد التي أتخم بها هاتفه، ولكن دائما ما استخف بمحتواها، واعتقد أنها لا تعدو غير لعبة صبيان ليس إلا. ولذا لم تراوده رغبة مسحها ورميها بعيدا رغم مشاعر الضيق والحنق التي تنتابه في كل مرة تعلن رنة هاتفه ورودها، لحين ساعة اختطاف زميله المعلم محمد خيون خريبط العرادي، والذي وجد بعد يومين مرميا في منطقة مهجورة خارج العاصمة، بجسد مشطب بالسكاكين. عند تلك الحادثة أضطر لمعاودة قراءتها بحثا عما تخفيه وتضمره من تهديد حقيقي لحياته.

 قبل خروجه من الخيمة المنصوبة وسط الساحة، وكان ذلك قراره الذي اتخذه مساء البارحة، في ساعة ضجر وبعجالة ودون تروٍ. فقد أخذت صور زوجته وأبنائه وحفيديه تراوده بإلحاح، وتضعف إرادته على المطاولة. ستة أيام من الابتعاد عن الأهل والأحفاد، بدت جد طويلة ومؤذية، ويحتاج أيضا لحمام دافئ وملابس نظيفة.

نبهه بعض أصدقاء، لضرورة أخذ الحيطة والحذر، إن رغب الابتعاد عن الساحة، فتلك مسألة تحتاج للكثير من الفطنة والحصافة والحذر الشديد، وبالذات هذه الأيام، لمن أتخذ قرار الخروج بمفرده. فحوادث اختطاف المنتفضين باتت شبه يومية وعلنية أيضا، وما عادت بذات أهمية تذكر عند السلطات، وشاطرها هذا التغافل اللئيم الكثير من وسائل الإعلام.  فهناك من يتعقب المنتفضين منذ لحظة مغادرتهم مكان الاعتصام، ويصطادهم مثل طرائد. تكرر ذلك في الأيام الأخيرة بشكل مفزع. فوقائع عمليات القنص ومثلها الاختطاف، شارك فيها العديد من الأطراف ذوي الملامح المجهولة والدوافع الظاهرة أو المخفية، لذا أشار عليه شركاؤه في الخيمة، بضرورة اتخاذ الأزقة المتداخلة والبعيدة ممرات للابتعاد عن الساحة.

 توقف وقد اعتراه بعض قلق، سار مسافة ليست بالقصيرة، وكان يتلفت بحذر شديد، ثم هرول. توغل في أزقة ملتوية، أضاع فيها وقتا طويلا، فلم يسبق له أن درج في تلافيفها، وما كان يملك اليقين والدراية بمداخلها ومخارجها. بعدها اجتاز جسرا تمهل وهو يسير فوقه، متأملا ضجة لطيور النورس وهي تقترب من سياجه الحديدي الأخضر، لتلتقط نثار خبز عافه أحدهم. شعر كأن هناك فوهات بنادق موجهة نحو ظهره من نوافذ البنايات المجاورة للجسر، وكانت أكثر الفوهات وأشدها تماسا وبأسا تخرج من فتحات تلك القبة الزرقاء الصامتة والصامدة منذ دهر طويل، مثلما عرف عنها، حيث روى المحدثون، كونها شاهدا دائما على انتفاضات ومسيرات حاشدة، ولازال جوف قبتها يحتفظ بصدى لعلعة رصاص، كان قد وجه لصدور وظهور رجال كانوا يرتشفون دمهم ببسالة، وتتشقق حناجرهم بحرقة هتافاتهم عن الحرية والعدالة التي أضمرت طويلا في الصدور.

هبط من الجسر وأخذ يجاور جدران الدكاكين المرصوفة على طول الشارع، ثم اختار التوغل في الأزقة الضيقة، محاولا الوصول إلى الشارع المفضي لقلب منطقة علاوي الحلة. لم يتبق غير الشيء اليسير ليكون الطريق سالكا بعدها نحو وسط المنطقة حيث المرآب الكبير للسيارات.  فجأة توقفت جواره سيارة رباعية الدفع مظللة، وبسرعة فائقة ترجل منها خمسة رجال بملابس مدنية ولحى مشذبة وابتسامات متشفية. بمرافقة سيل كلمات بذيئة، أحاطوه. تسمر مكانه، فلم تمنحه المباغتة فرصة التفكير بالهروب، واختفى لحظتها عن ذهنه، رهان ذلك السيناريو الذي سهد وهو يجسده في مسرحية ضج بها رأسه في ليال أشتد سوادها وهو يطالع سقف الخيمة الحاجب لضوء القمر.

كان المكان ضيقا لا يسمح بحرية الحركة والإفلات، لذا سهل عليهم مهمة محاصرته واعتقاله. كانوا وكأنهم قد دربوا على إتقان مهامهم، مثلما عليه رجال الصاعقة في الجيوش النظامية. دون عسر ومقاومة، قيدوا يديه إلى الخلف بأنشوطة بلاستك، كانت تضغط على ساعديه، فشعر وكأنها حد سكين، ثم وضعوا كيس قماش كالح اللون، غطوا به رأسه، كانت رائحته عطنة مثل براز حيوان، أحس بالاختناق ورغبة بالتقيؤ. رفعوه بخفة، وألقوا جسده بقوة وسط الحوض الخلفي لسيارتهم. لم تستغرق عملية اختطافه غير دقائق معدودات، فقد كانوا مهيأين لها بشكل جيد وإتقان احترافي.

 حركة السيارة المسرعة تشي باختراقها لشوارع عريضة، وكان سيرها بطيئا بداية الأمر، واهتزازها جعله يشعر بألم عظام شديد. ورغم سيرها الحثيث لوقت ليس بالقصير، فقد عرف بأنها لم تغادر وسط المدينة، وما كان اللف والدوران طيلة الوقت، غير جزء من عملية تمويه. لمرتين توقفت السيارة فسمع فيهما صوت ينادي من الخارج، تفضل سيدي.

 شعر وكأن السيارة سارت ببطء شديد ولمسافة ليست بالقصيرة، داخل أزقة ضيقة مكتظة بالسكان. وبوجود بيوت قريبة، كان يصدر عنها صراخ أطفال وأصوات نسوة، بل كان بالإمكان سماع مقاطع من حوارات قريبة، فعرف أنهم في حي مليء بالبشر. بعد فترة اختفت الأصوات كليا، وبدأت تزداد اهتزازات السيارة، وكأنها تسير عبر شارع ترابي مرصع بالحفر، ثم توقفت السيارة، سمع بعدها صوت صرير ثقيل لباب حديدي يفتح.

كانوا بعجالة من أمرهم، لذا سحبوه من حوض السيارة الخلفي ورموه أرضا فسقط مثل كيس رمل ثقيل. انكفأ على وجهه فوق أرض ترابية، ليجلس أحدهم بجسده الثقيل فوق ظهره، ومع رائحة العطن المنبعث من غطاء الرأس شعر بالاختناق وضيق وألم شديد في الصدر.

ــ لا تتحرك إلا حين تؤمر.

كان الصوت ناعما صافيا قريبا لصوت أنثوي، ولكن نبرته واضحة وحازمة.

ــ انهض.

أعانه أحدهم على الوقوف. أصوات تئز في رأسه. وشعر بتشنج ربلة قدمه اليسرى، فأضطر للقفز الخفيف محاولا إرخاء وفك حالة التشنج، فسمع ضحكاتهم. ولكن الصوت الناعم صرخ بشدة مرة أخرى.

ــ توقف أرعن، معتاد على الرقص، توقف وإلا..

سمع صوت سحب أقسام سلاح. وفجأة وجهت له ضربة كف قوية ترنح إثرها والتف بجسده دورة كاملة. حاول أن يتماسك كي لا يقع. لم يكن يعرف أي اتجاه يتخذه جسده، ثم سقط على ركبتيه.

ــ قف

تقدم أحدهم وسحبه من ساعده ليساعده على النهوض. شعر بغثيان ثقيل يداهمه.

ــ تقدم إلى الأمام ثم أستدر يمينا، خطوتين إلى الأمام، استمر بالتقدم لحين أطلب منك التوقف. اجلس على ركبتيك.

كان سيل الأوامر يتقاطع بحدة مع قهقهات قوية تتردد من المجموعة. شعر بمقدار ما يحمله هذا الصوت الأنثوي البغيض، من خبث وغل، وهو يلهو بتعذيبه. فجأة انتابته قوة وإيحاء روحي للمقاومة والصمود، ورغبة عارمة في إهمال ما يصدر عن هذا الصبي النزق، وقرر تحدي هذا الأرعن الخبيث. لذا توقف وتجاهل الأوامر. فقد راوده شعور بالقدرة على تقبل جميع الاحتمالات، بما فيها الموت، واستعداده لمواجهة هذه الطرق الصبيانية، الساعية لتحطيم معنوياته وإذلاله.

 الخبث الداعر يحتسبه هؤلاء الأوباش انتصارا وشجاعة ما بعدها شجاعة، حدث نفسه وانتابته مشاعر ازدراء وكره شديدين. حاول الاسترخاء نفسيا وجسديا، وأحس بعدم المبالاة تجاه ما يجري حوله. تيقن بقدرته على مقارعة هذه اللعبة القذرة التي تمارس معه. ترقب غريب وشعور بلحظة أكثر غرابة، لم تراوده مشاعر خوف ورهبة. كل هذه المخاوف أحس وكأنها غادرت روحه ورميت بعيدا وغُلف جسده بحالة استقرار وطمأنينة، فلم يعد يخيفه ما يحدث أو ما سوف يفعله هؤلاء للتنفيس عن ساديتهم وجبنهم، فليس هناك في خاطره الآن غير احتمال تهور هؤلاء الجبناء واندفاعهم لقتله.

ــ من الذي دفعك لمثل هذا الموقف المعارض للحكومة، إلى أي جهة حزبية تنتمي؟ أخبرنا وإلا سوف يحدث ما لا تتوقعه، ولن يكون في صالحك وصالح عائلتك.

كان صوتا أخر لرجل أقترب منه وضغط بأصابع يابسة كأنها أقلام حديد عند الحفرة الرخوة بين الكتف والرقبة، يبدو بحركته هذه وكأنه يتقن طرق التعذيب. أحس بفحيح يلامس رقبته. شعر وكأن سبق له وسمع هذا الصوت. سمعه يتحدث في أحد أماكن ساحة التحرير، في خيمتهم أو بالقرب منها، كان صوتا خشنا أجشا جافا. جال بتفكيره داخل الخيمة وجوارها، ولكنه لم يستطع بكامل اليقين استحضار وجه صاحب الصوت. فضل الصمت، ووقف دون حراك، وكأن الكلام لم يكن موجها إليه، والأمر برمته لا يعنيه.

 عند تكرار حالات الاعتقال، تدور في مخيلة المرء الكثير من الأسئلة، ويستحضر العديد من المواقف، أسباب الاعتقال رغم معرفته المسبقة واليقينية بها، ثم يبدأ التفكير بما سوف يكون عليه القادم، أو كيف تكون المواجهة، ولكن بعد مضي وقت قصير، تقصي بعيدا جميع الرغبات بالبحث عن أجوبة، وعندها يشعر المرء بأن لا حاجة للحديث وإنما الصمت يحمل الكثير من البلاغة.

ــ ما الذي جعلك تذهب وأنت في هذا العمر وتحرض الشباب على التظاهر والانتفاض ضد الحكومة، أنتم مجموعة الجوكرية سيكون حسابكم عسيرا.

تلك اللحظة ود أن يرى وجه هذا الرجل الخبيث، ليتيقن جيدا من صورته التي وجدها تنط فجأة أمامه بكامل تجلياتها القبيحة. فكر بضرورة الامتناع عن الإفصاح بمعرفته لهذا الشخص، فذلك سوف يكون دافعا لقتله. طلب منهم رفع الغطاء عن رأسه. فرد أحدهم عليه بضربة كف قوية، ترنح إثرها ووقع على الأرض، فبدأت ركلاتهم تتوالى بقوة وسرعة. أخذ جسده يتلوى ألما. كان يحاول تحاشي الضرب، ولكن مع غطاء الرأس ما كان ليستطيع معرفة من أي مكان تهوي عليه الركلات. استمروا لعدة دقائق ثم أمرهم الصوت الأنثوي بالتوقف.

ــ تطلب وتريد، لا بل تأمر يا ابن الزنا، هذه المرة الأولى ولتتذكرها جيدا، في المرة القادمة إن كررت وجودك مع المتظاهرين وتحريضك لهم، فسوف يكون عقابك نهاية وجودك في هذه الدنيا.

ــ وماذا فعلت لتعاملوني هكذا؟ ومن تكونون أنتم؟

بسرعة وقسوة أعيد استخدام الركلات مرة أخرى جوابا على تساؤله. أحدهم استخدم حزاما جلديا راح يسوطه به، أخذ يتلوى وجعا وبذل جهدا فائقا لأجل كتم توجعه. كان أحدهم يوجه ضربات مقدمة حذائه الثقيل نحو وسط جسده وكأنه يريد أن يغرزه عند الخاصرة، ليصل إلى حيث الكلى، ومهما حاول التحرك والتخلص من الضربات، يجده يعاود الركل الشديد بذات المكان. كان وكأنه يعرف الهدف الساعي إليه، وبهذا الشكل الاحترافي، وسبق وأن مارسه مع العديد من الناس سيئي الحظ، من الذين وقعوا بذات الفخ الخبيث. فهذا اللعين يملك اليقين بكون ما يفعله، إذا لم يسبب انفجار الكلية فهو يعطبها، استمر الركل والضرب لما يقارب العشر دقائق.

ــ دعوه الآن فيكفي مع أبن العاهرة هذا، ما تلقاه هذه المرة من أحذية وضرب. لعله يرعوي.

ــ فعل جبناء، تنفردون بنا واحد إثر الأخر..

ــ أخرس وإلا فجرت رأسك.

ــ وماذا تنتظر.

ــ أرسلوه إلى مركز الشرطة في منطقته ليقبع هناك، وأخبروا الضابط أبو أنس بأن هذا الملعون يمارس الدعارة والقمار، ويحتاج لعقوبة قاسية بما يستحق.

ــ أبا رحيم، هذا عنيد ولسانه سليط، ولم ينل اليوم ما يستحقه من تأديب.

ــ أعرف هذا، لعله يتأدب بعد هذا الدرس.. خذوه.

رفعوه بخفة ورموه ليتكور جسده في حوض السيارة التي انطلقت نحو مركز الشرطة مخترقة الشوارع دون توقف.

عرض مقالات: