سيكون لكلمة (أعمى) وقع مفرط الخصوصية، عند شخص يفكر في (السّكين العمياء) و(السّحلية العمياء) مثلهما مثل تفكيره بـ(الفكرة العمياء) و(النصّ الأعمى). كذلك فإنّه سيفصل بين حدّي تركيب العطف (الصّوت والصّدى) ويفرّقهما كلاً في فضاء روائيّ، فتتبادل الكلمتان موقعيهما اللغويّين وترتبطان بتركيبين متجاورين: (الصّوت الأعمى) و(الصّدى الأخرس). والحقيقة، إنّ هذا التبادل التركيبي جرى فعلاً في موقع تاريخيّ مقرِف، هو (مركز شرطة الخيالة في مدينة الناصرية).. وإليكم التفاصيل.

 لِنقُلْ أولاً، وقبل التوغّل في نتانة إسْطَبْل الخيول هذا، إنّ كاتباً مبتدئاً (أخفى اسمه تحت لقب السَّرطان الأحمر) سيُنقَل مع مئات الشيوعيّين، المعتقلين في انقلاب شباط ١٩٦٣، ليُمضى مدّة حجزه في الإسْطَبل، البالغة تسعة أشهر، في كتابة روايته الأولى تحت عنوان (الصّوت والصّدى). اقتنصَ الكاتبُ_ السَّرطان لحظات من الليل، في ركنٍ من مهجع الخيول القديم، لتدوين سيرته المدرسية الفجّة (الجزء الأول منها تحت عنوان: الصّوت الأعمى) وتكتّمَ عليها تحت فراشه، طيلة الاعتقال. إلا أنّ محاولة انقلابية مضادّة لانقلاب شباط، نفّذها القوميّون في تشرين الثاني من العام نفسه، أنهَت الجزءَ الأول من الرواية بحادثٍ غير متوقّع. مدّدَ المحقِّقون “التشرينيّون” فترة الاعتقال الجماعي، أربعة شهور أخرى، تمكّن “السّرطان الأحمر” خلالها من تأليف الجزء الثاني من الرواية، بعنوان (الصّدى الأخرس). ولهذا الجزء قصة تختلف عن الجزء الأول، سيركّز عليها هذا السكيتش. (يتضمّن الجزءُ الأول من المخطوطة: طفولةَ الكاتب، ومحلّته التي وُلِد فيها، وتنتهي بتخرجه بالمدرسة الثانوية. وأشهر مقطع في هذا الجزء من ذكريات الكاتب هو الاسم المستعار الذي لصِقَ به خلال الدراسة الثانوية إثر قبول ترشيحه لعضوية الحزب الشيوعي، ثم تسلّله فجراً على دراجته الهوائية لتوزيع المنشورات الحزبية في دروب محلّته المتشعّبة).

   يتكوّن مركز الخيّالة من القاعة الكبيرة_ الإسْطَبْل القديم، وملحق مسقَّف كان يُستخدم لخزن التِّبْن والأعلاف فيما مضى من زمان الشرطة الخيّالة (فضلاً عن الحمّامات والقسم الإداري الذي يشغله آمرُ المركز وكتَبَتُه). قبل نهاية العام، استُدعيَ الكاتب السرطانيّ للملحق الإداري وقابلَ هيئة تحقيق جديدة، شُكّلت بعد انقلاب تشرين الثاني. طلبوا منه الإفاضة في الحديث عن حياته وأسباب اعتقاله، فأخرج من ثيابه المتّسخة مخطوطةَ الجزء الأول (الصّوت الأعمى) وسلّمها للهيئة. أزمع على تبديل إفادة اعتقاله الأولى، وأبدى تعاوناً مع الهيئة الجديدة، إلا أنّه لم ينجح في تبديل نمط حياته، والبدء بمرحلة جديدة، فقد مدّدَ المحقّقون مدّة حجزه أربعة شهور أخرى، خاض خلالها في الغائط (المكان الذي سيتسيّد حوادثَ الجزء الثاني من الرواية، والموصوف بالكابوس النتن).

 قال لرئيس الهيئة العسكرية التي استدعته: “لا أملك شيئاً أعترف به. كنت طالباً مشاغباً، وفي هذه الأوراق ما تبغون معرفته”. اكتفت الهيئة بأوراق المخطوطة المجعَّدة، وأعيد السّرطان الى ركنه في القاووش الواسع، وفي ذهنه التخطيط الكامل لكتابة الجزء الثاني من روايته بعنوان (الصّدى الأخرس). باح لرفيقه الذي يتوسَّد الفراشَ المجاور له: “فرِحَ المغفّلون بأوراقي. كانت هذه حيلة استدرجتُهم فيها الى ثقب حياتي الماضية. أردتُ أن أتخلّص من مغامرتي الفاشلة في إخراج الثورة العذراء إلى عرض الشارع. لكنّهم طردوني شرَّ طردة من غرفة التحقيق. سأجعلهم يغطسون في النتانة معي”.

 سنعلم من هذا الحديث الطريقة التي يفكر الكاتبُ الأحمر بها لإتمام عمله في الجزء الثاني من روايته (بعبارة ثانية سنسمعه يقول لرفيقه في القاووش: سأحرّر الصدى من خَرَسه!). أمّا بتعبير هذا السكيتش، فسننقل ما كتبَه السَّرطان عن مشهد الخيول الخُرس “التي تخبّ ظلالُها بصمت، وتضرب بقوائمها سقف الإسْطَبْل الشاهق، فوق أجساد الهاجعين، في موهن الليل”.

 كان ذاك_ خَبَبُ الخيول_ مفتتح القسم الثاني من رواية (الصّوت والصّدى)، أنهاه الكاتب_ السَّرطان قبل فسحة الصباح الباكرة بدقائق؛ ثم فتح الحرّاس بوابة الإسطَبْل، ذات القضبان الحديدية الغليظة، فاندفع المحتجَزون من أفرشتهم نحو الحمّامات منتشرين كقطيع مُحتَبَس (وهنا يشرع السكيتش في تخطيط أحداثٍ مجاورة لمشهد انعكاس ظلال الخيول على سقف المهجع، ألا هو مشهد الغائط الثاني). فصّلَ الكاتبُ_ السَّرطان مشكلة العثور على باب حمّام مقشَّر الصِّباغ، يختلي المعتقَل وراءه لقضاء حاجته بارتياح وهدوء. ستتوالى الطرقات بإلحاح مكتوم على الخشب الرّطب لباب الحمّام، فيقطع المختلي إعصار معدته، ويُهرَع الى السقيفة المخصَّصة قبلاً لخزن أعلاف الخيول. وكان السَّرطان ممن يتوجّهون الى “المَتْبَنة” لا يلوي على حمّام مشترك، يتدافع القطيعُ على احتلال مساحته الضيقة والإقعاء فوق مقعده الواطئ.

  قُسِّمت سقيفةُ الغائط إلى مساحات، تفصلها كتلٌ اسمنتية، يقعي عليها السَّرطان، وسط مجموعة المتبرِّزين، المكشوفين في العراء، لا يفصلهم حاجز أو جدار. رَبَتْ مساحةُ المرحاض بما تراكمَ بين مواطئ الفواصل الإسمنتية، وأصبحت مستراحاً لا يُنفَر منه، بل يجتذِب مُحتصَرين يزيد عددهم على عدد مختلي الحمّامات المعزولة (في جعبة السكيتش تفصيلات سترِد تباعاً عن سقيفة التِّبْن_ الغَوطة، ليس آخرها تناثر أوراق الجزء الأول من رواية السَّرطان على سطحها المتبخِّر بالنتن والأفكار الكابوسيّة).

 ولتوضيح مسار الملاحظة السابقة عن الأفكار التي تراود السَّرطان خلال فترة التغوّط الصباحية، واختزان نتنها لحين ركض الخيول الصامت على السّقف، بين أحداث القسم الثاني من (الصّوت والصّدى)، نقول: إنّ انبثاق أخيلة الإسْطَبْل الإنسانيّ في رأس الكاتب تسارعت بوتيرة جنونية، لم يقوَ على احتمالها. ظنّ السَّرطان أنّه سيختلي بمخيّلته، بيضاءَ نظيفة، بعد تسليم مخطوطة القسم الأول من الرواية، حتى مشاهدتها منثورةً على رقعة الغائط الفائر، من دون أن يعلم سبباً لذلك، عدا ما باحَ به مرافقه اللصيق (وكُنيته: أبو عضّة) في ليلة اكتشاف الواقعة:

  _ “ليست روايتك إلا واحدة من مئات الأوراق التي نثرتها هيئة تحقيق تشرين الثاني في المَتْبَنة نكاية بكتّابها الأفذاذ”. ثم تابع أبو عضّة قوله: “ليست الواقعة بالإهانة قطعاً، فالأفكار العظيمة في هذا المكان تتحلّل كما يتحلّل الطّعام؛ ونحن نغُوط وراءها يوماً بعد يوم. لولا خطورتك عند الهيئة لما أقدمَتْ على تبديد جهدك الفكري بهذه الطريقة”.

  لم يقتنع السَّرطان بتحليل رديفه في ركن المهجع، فأضمر في داخله تأليف قسمٍ ثانٍ من الرواية، قال لرفيقه إنّه سيُحدِث رشّاشاً من الفضلات لو فكر شخصٌ برمي أوراقه في المَتْبَنة. نظر الى نَدبة رفيقه شبه الدائرية، وتخيّل انغراز الأسنان في وجنته، وما تركته من أثر نيّئ على الوجه الناصع (ستدخل العضّة أيضاً بين المشاهد الرئيسة للقسم الثاني من رواية السرطان. ونذكر هنا نتفةً من تخيُّل السَّرطان لمشهد التحقيق المرعب ذاك: وثبَ المحقّق على ضحيته، وأطبقَ بفكّيه على لحمة الخدّ الأيمن، مفرغِاً فيها شبقَه الساديّ في عضّة طويلة). كانت مواضع الأسنان في النَّدبة الغائرة تتلألأ على اللحم الأبيض، تحت ضوء الصباح الباكر، ما إن تنفتح البوّابة وينفلت المعتَقلون خارجها.

  لم يَبُح السَّرطان لرفيقه بمغامرته القادمة (خصوصاً المادة التي سيستخدمها في الكتابة) لكنّه لمّح عرَضاً إلى “رشّاش الغائط” وسأله: “هل للخيول التي عاشت في الإسْطَبل القديم أرواح كأرواحنا؟”. كانت الفكرة مفاجئة لأبي عضّة، فحمحم، كحصان هزيل، بما ظنّه السّرطان عبارةَ استخذاء وطاعة سكنَت روحَه المكسورة. لمحه يكتب سطوراً دقيقة على ساعد يده بقلم جافّ، فجاورَه وهمس له: “لا ريب أنّ ما تخطّه على ساعدك ذو أهميّة بالغة. إنّك تلعب بالنار أيّها الرفيق”.

  حدّقَ السَّرطان للنَّدبة النيئة، واستفهم باستنكار: “ما ظنّك أنّنا منتظرون؟ نزهة قصيرة في الغيط؟”.

  أخذَ (الصّدى الأخرس) يتسطّر في مقاطع متفرّقة على جِلد السَّرطان، مقطعاً بعد آخر. وإذا أردنا الوصف الدقيق لطريقته في تأليف الجزء الثاني، فقد نعثر على هذا السّطر، في جزء غير ظاهر من جسده: “تُدهِشُني طريقة المثّالين القدامى في حفر قصص ملوكهم وكهّانهم على مناطق مختلفة من أجسادهم الصخرية؛ وبطريقتي فإنّ الحفر بالقلم الجافّ على أديم جسدي سيحرم المحقّقين من متعة نثر روايتي في مساحة الغائط”.

  سِوى أنّ صاحبه المجاور لفراشه حسمَ الجدال، قبل طلوع الفجر، كاتماً صوته بأقصى ما يتوخّاه من حذر وريبة: “ماذا لو اكتشفوا كتابتَك، أتظنّهم يتباطؤون في تقطيع لحمك؟ أتبتكر نوعاً من الصَّلْب عبر استمراء العذاب؟ بئس ما تتخذ من أساليب قديمة عفّى عليها الزمن!”.

  لم يُدهَش السَّرطان لكلام رفيقه في الركن شبه المظلم، بل حصرَ المشكلة بإشارته المفاجئة: “إنّي أؤلف ما يتّفق مع قيمة الأفكار التي تتجرّد من وقائعها. أنت تعرف ما يمكنني كتابته عن عضّتك!”.

  صمتَ الرفيق المعضوض طويلاً، ثم أجهش في البكاء: “أتعرف؟ لن تصل في قسوتك إلى ما وصَلَه محقِّقو شباط أولئك. بل أنت جزء ضئيل من الغائط، كتابتُك نوع من الانحطاط، عكس كتابة الساديّين القدامى، أولئك الذين خلّدوا ملوكَهم بتماثيل منيعة على الدمار. أنت ساديّ منحطّ. هذا ما أعتقده بخصوص روايتك”.

  انتظرَ السَّرطان هدوء الاختضاض في صوت رفيقه، ليُبدي ملاحظته القاسية الثانية: “أنت تحبّهم أيضاً، بينما تحمل عارَهم الظاهر على وجهك؛ لن يُمحى هذا الوشم مهما تقدّم الزمن”.

  ردّ المعضوض: “سأقول لك سِرّا، كي تُسرِع في خطّ روايتك.. إنّهم يستعدّون في المركز لإجلائنا، كي يحلّ بدلنا زعماءُ انقلاب شباط المغدور بهم. ما اعتقلوه منهم يفوق عدد معتقَلينا، ولن يجدوا غير الإسْطَبْل لإظهار احتقارهم لخصومهم المطاح بهم. ستضيق الدنيا بفعلتهم”.

  فسّرَ الكاتب_ السّرطان معلومةَ الإجلاء في غير اتجاهها ومغزاها، وظنّ بصاحبه الظّنون: “حسن. في هذا الوضع المنقلِب رأساً على عقِب، سيُتاح لك أن تقابِل الجلاد الساديّ ثانيةً وجهاً لوجه خلال عملية التبادل. الأمر مرعب يا صديقي. هل ستقبّله حينذاك على وجنته قبلةَ المسيح للمفتش العام، بعد اللقاء الذي جرى بينهما في رواية “الأخوة كارامازوف؟”.

  سنستبق _في هذا السكيتش_ العمليات الجهنمية لاستبدال المعتقلين، بوشايةٍ من أحد المعتقلين، أعادتْ هيئةَ تحقيق تشرين الثاني إلى عملها في إسْطَبْل الشرطة الخيّالة، ثم سيُساق المُستَبدَلون الشيوعيّون الى ساحة المركز، أو ما تبقّى من هذه المساحة، ويُؤمَرون بالتجرّد من ملابسهم، والوقوف في صفوف مرتّبة تسمح بمرور آمر مركز الشرطة بينها.

  تجوّل الآمر بين الصّفوف، ثم أشارَ للكاتب_ السّرطان كي يفرِز نفسَه، ويتقدّم الصفوف؛ وبخطاب قصير ساخر، هتف المأمور بالمعتقَل العاري: “أتتصوّر نفسَك الوحيد الذي كتبَ روايتَه على جسده؟ أنظر حولك ترَ ما لا يقلّ عن عشرة أشخاص في الطابور توهّموا هذه الوسيلة السرّية لتهريب خواطرهم، أو كوابيسهم بحسب ما تصوّروا، بأوشمة وأشكال مختلفة. هيا انسحب وعُدْ الى مكانك، حتى يحين وقت عرضِك معهم على الهيئة التحقيقيّة”.

  نادى الآمر على أسماء معتقلين آخرين، مُدوَّنين على قائمةٍ بيده، فتقدّموا ووقفوا أمام الصفوف، وكان بينهم أبو عضّة الذي تجلّت نَدبتُه الغائرة على وجهه، دليلاً وحيداً على ثبوت التُّهمة التي زعمَها آمرُ المركز بخصوص الكاتبين على أجسادهم.

عرض مقالات: