علي الشوك ذاكرة حية للمدينة، ولروح بهجتها، ولتحولاتها الكبرى، فهو يهجس تفاصيل تلك التحولات، يستشرف أفقا غائرا، أو موتا يصنعه الاستبداد، وهذا الموت الانطولوجي هو المجال السردي الذي ظل يلاحقه الشوك، بوصفه موتا للمدينة، وموتا للمثقف الحر، الرومانسي والثوري، والمهووس بالبحث الضدي عن الحياة، ليس بمعناها الايديولوجي، والطبقي، بل معنى الرحيل الى انسانية تلك المدينة..
عوالم الشوك هي عوالم جيل ثقافي كامل عاش ارهاصات تحول المدينة، وخروج من عتمة "الاستعمارات" الثقافية، مثلما هي عوالم انفتاح حضري لسيرورة المدينة، في قيم حريتها وتحول عمرانها..
هذه العوالم هي عوالم المثقف أيضا، المثقف الحالم، والمتسائل، والوجودي، ومدوّن سيرة المدينة، وحين يستشرف الكاتب العراقي المغترب علي الشوك فضاءات السيرة الذاتية، فانه يستعيدها سيرة لعوالمه المتخيلة، وسردياته التي تستكشف يوميات المكان/المدينة، وحيواته التي يسري القلق في عوالمها وفي علائقها بالمكان، اذ يجد في لعبة الاستعادة تلك محاولة للهروب من الزمن ومن مثيولوجياته "المحلية" والتي تتركه دائما عند الكثير من البواعث النفسية المضطربة التي تنبشها التساؤلات، والتي تتحول في روايته الجديدة "مثلث متساوي الساقين" الصادرة عن دار المدى الى ما يشبه البحث في المصائر المتقاطعة، واليوميات التي تغوي على استكناه محمولاتها المحسوسة، والتي يستعيد من خلالها الشوك ذاكرة المدينة التي تسكنه هاجسا مقلقا، والتي يستعيدها مدينة دافقة، حميمية رغم قسوتها ووحشتها.
في هذه الرواية ينحني الشوك على ذاكرته بوصفها خزّانا للسيرة، وفضاء متخيلا لاستعادة زمنه الشخصي المجدب، ولاغترابه الذي يطلقه الى احالات تضعه عند سردية المدينة/ بغداد وهي تتكشف وتتعرّي عبر ثيماتها الصراعية الحاشدة برعبها السياسي، ووقائعها التي تترسم هزيمة الانسان، وخواء الانتلجنسيا العراقية وهي تواجه قمع السلطة، واستلابها الداخلي، مثلما تواجه موتها الرمزي وخراب احلامها وعلائقها الممسوخة.
تقودنا هذه الرواية الى استقراء سيرة تاريخية ومتخيلة لمثقف عراقي استغور فضاءات سيرة الامكنة العراقية وعاش الكثير من عوالم صراعاتها، اذ تبدو هذه الصراعات وكأنها محمولات رمزية تعبّر عن حراك ابطاله المثقفين واغتراباتهم، والذين يعيشون ازمات وعيهم الشقي للحرية والمكان المستعاد، مثلما يعيشون ازماتهم الوجودية في مدن المنفى، حيث لا تبدو تلك المدن الاّ متاهة يتقصى فيها اسرار وجده، وبحثه التعويضي عن وظائف إشباعيه، وعن لحظات وجودية تعيده الى فكرة الكائن قبل اغترابه، وبما يجعل الروائي امام الرغبة الدائبة في أنسنه هذه المدن التي يكثر حضورها مثل براغ ولندن وبرلين، اذ يبدو تكرار هذا الحضور نوعا من الاستشعار القلق الذي يدفعه الى البحث عن المدن التي هرب اليها الكثير من المثقفين العراقيين، مثقفي الايديولوجيا واليسار، والذين يصطنعون لهم في هذه المدن صراعات تشبه تلك التي كانوا يعيشونها في المدينة الشاحبة، والحاضرة بقوة استعادية في سيرته السردية..
هذه الصراعات المستعادة لا تبدو بعيدة عن عوالم الروائي، اذ يستعيد عبرها صور شخصياته ويومياته المشغولة بهواجس بطله المثقف الذي هو خليط من البطل الوجودي والايديولوجي اليساري الحانق على واقعه وعلى السلطة، والذي يعاني من فوبيا الملاحقة والمراقبة، والتي كثيرا ما نجدها كثيمة صراعية في رواياته، اذ استغرقت هذه الثيمة الشوك في روايته السابقة "عشب احمر" والتي يحمل البطل هشام المقدادي همومه الوجودية في المكان والوعي بوصفها قناعه الذي يواجه بها أزماته الانسانية الداخلية، فضلا عن ما تمثله من كشوفات عميقة للمسكوت عنه ازاء ما يواجهه من ازمات سياسية واخلاقية كثيرا ما يصطنعها بطله المثقف/ المغترب الذي ظل يعيش حيوات حاشدة بأنواع ملتبسه من الصراعات الداخلية، لكنها المهووسة ايضا بقلق بحثه عن الحرية واسئلتها، والتي تفترض ان هروبه الى المنفى، ومساكنته مدنه الضاجة بالحياة هو الوجه الآخر لاغترابه داخل الاقنعة، اذ يكون هذا المنفى هو الملاذ الاضطراري المشوب بفجيعة ما يهجس به من احساس مرعب بالغياب، والذي يتحول الى باعث على استيهامات إشباعيه للتعويض عن حرمانه النفسي والوجودي، والذي يتمظهر عبر ازمة وعيه القلق إزاء المكان النوستالجي المحكوم بالحضور والاستعادة المتخيلة، لكنه العالق ايضا بأوهام ما علق به من رعبه الشخصي من السلطة الغاشمة، تلك التي تدفعه تحت هاجس التعويض الى استعادة مراثيه ازاء المدينة/مكانه الإيهامي، وازاء ما تصطنعه من تعويضات، والتي تتركه نهبا لشهوة استعادة ذاته المضطربة في توصيفها الظاهراتي استعادة وعيه لثيمة اغتراب بطله العاطل رمزيا عن ممارسة الحرية واللذة..
في سيرة علي الشوك يكتشف وعي هذا البطل المثقف الزائف والقلق من خلال معطيات ما يبدو ظاهرا في صراعه الاشكالي-الذي يساكنه دائما- والمستعاد بين شفرات الامكنة التي يعيشها في الواقع وبين التي يستعيدها سرديا، اذ تبدو هذه الامكنة المتقاطعة "المستعادة والغائبة" وكأنها تعبير عن فداحة اغترابه، وقسوة وعيه، وعن مرارة وجوده المستعاد، فضلا عن كونها تعبيرا عن ما يهجس به ازاء ازمة الانتماء وازمة الهوية، بصفتها عناوين عن الصراع الانطولوجي القائم في حياة المثقفين العراقيين في المنفى، والذي يتجسد من جهة اخرى عبر مظاهر انثربولوجية تلامس فكره بحثه الدائم من اجل المعنى الانساني للوجود والحرية وانعكاس تداعياتها النفسية على الذات العراقية المطرودة والقلقة، والمصابة بفوبيا الامكنة. فالبطل في الرواية هو نموذج المثقف القلق الذي يحلم كثيرا بالحرية، لكنه ايضا المستلب وجوديا ازاءها، حيث يكون ذاكرة القمع حاضرة بكل قسوتها وتلصصها، والتي تسبغ على المكان صفة "المكان المعادي" مقابل ما يصنعه في المكان الاستعادي من احاسيس تعويضية للمكان الاليف، وهذا التقابل هو يفجّر هواجسه ما يثير وعيه الشقي، اذ كثيرا ما يستعيد بطله توازنه لكي يواجه الكثير من التحديات بحثا عن قوته الاخلاقية العميقة التي يمكنها كفالة توازنه الداخلي وسط احتدامات وتشوهات تحوطه من الخارج وتجسّه من الداخل..
رواية "مثلث متساوي الساقين" تستبطن الكثير من عوالم الشوك في انشغالاته الثقافية ومرجعياته المعرفية، اذ يحمل العنوان شفرته الرياضية - ميدان عمله الرئيس- مقابل ما يتضمنه من تشفير لاستدعاء معرفي واجتماعي، فهو اذ يضع هذه العتبة او الثريا كما يسميها القاص محمود عبد الوهاب وسط فضاء تأويلي، فانه ايضا يمنحها دلالة تعبيرية للبحث عن التوازن الداخلي في المكان، والذي يعيش اغتراباته البطل والروائي في آن معا، فهو تارة محمول على نوع من التجريد البصري والدلالي الباعث على اصطناع شفرات داخلية فيها الكثير من الاحالات والايهامات، وتارة اخرى يكون هو النزوع الى التجسيد، حيث الكائن الباحث عن هويته، والتي يصطنع لها نوعا من التبئير الذي يمارس وظيفة الكشف عبر الرمز، وعبر توظيف حمولاته التعبيرية والدلالية في استكناه عوالم انسية للمدن التي يعيشها، والتي يغترب فيها، وللأصدقاء، ولشخصياته الاخرى، والتي يبصرها بعيون مشوبة كثيرا بالاستعادة، تلك التي تجعل من مفهوم التوازي - مثلث متساوي الساقين - دلالة على القوة العميقة التي تساكنه، والتي تتحول الى بواعث دافعة للبحث عن التوازن الداخلي الذي يعيش غيابه البطل المغترب، بكل ما يعنيه هذا الغياب من خراب روحي واضطراب وعزلة ونوستالجيا واستعادة غير منضبطة للتخيلات التي تثير اضطرابه وهواجسه دائما..
ان ما تثيره هذه الرواية من هواجس، تترك الأثر على طبيعة ما يستحضره الروائي من استيهامات غاوية، تلك التي تكون باعثه لاستعادة ملامح حميمة وغائمة للأمكنة والوجوه التي يعيش اغترابها، والتي يعيش قلق استعادتها، اذ تتحول الرواية تحت هذا الهاجس الى ما يشبه كتابة الحنين، والتي تبدو الاقرب في التوصيف الى السيرة بوصفها سردا، تلك التي تجعل من بطله "هشام البغدادي" نموذجا للبطل الواقعي الذي يلبس قناع علي الشوك، والذي يمنحه القوة والدافعية للتعبير عن المعاني العميقة للبحث عن خلاصه الوجودي، عبر خلاص ما يمثله من نموذج ثقافي للانتلجنسيا العراقية التي عاشت حميمية المكان وقسوته، اذ يمثل هذا النموذج في جوهره قناعا لمثقفي الطبقة الوسطى العراقية في الخمسينيات، وصورة لأزمتهم الصراعية التي رافقت فقدانهم قوتهم المعنوية بعد الثورات والانقلابات التي احدثت شرخا في عمق الحياة العراقية، خاصة مع سيطرة البعثيين على السلطة عام 1963. ورغم ما يستهل به الروائي روايته بانها امتداد لرواية سابقة "عشب احمر" الصادرة عام2007 وان حضور البطل الروائي ذاته، الاّ ان ما تحمله هذه الرواية تضع هذا البطل امام عوالم اكثر رعبا وقلقا، واكثر استغوارا للحيوات العراقية المتعددة التي يعيش بين سوانحها المثقف اغترابات مركبة، وجودية وسياسية وانسانية وجنسية، والتي تترك هذا البطل امام نزعة دائمة للهروب من الامكنة الطاردة، والبحث عن امكنة اخرى وحيوات رمزية لمثاله الطبقي والثقافي، لكن هذا الهروب والمغادرة يظلان يحملان الكثير من ملامح وجهه الانساني الغامر بالكآبة والفقدان والرعب الداخلي.
رواية "مثلث متساوي الساقين" عمدت الى تكون شهادة او سيرة لزمن اغترابي عاشه المثقف العراقي، واطلّ من خلاله على سيرة الامكنة "امكنة النوستالجيا والمنافي المتعددة" مثلما هي تعبير عن شحوبها، وعن متاهة اصدقائه الذين عاشوا في سيرته اغتراباتهم الداخلية والخارجية، فضلا عن نزوع الروائي الى فضح سيرة السلطة الشوفينية، تلك التي اسهمت في انتاج هذا الرعب الانساني، وهذه المنافي التي تحولت الى شتات والى اوطان طارئة يعيش فيها المثقفون على المعونات والرواتب التي تدفعها جهات دولية سياسية او حزبية معينة، وحتى جهات مشبوهة احيانا، اذ يظل ابطاله الواقعيون يعيشون ازماتهم الوجودية والانسانية بنوع من الفوبيا القهرية، وكأنهم ابطال الجحيم الذين تقتادهم اقدارهم الى مستويات غرائبية من العذاب والموت والايهام بالخلاص..
واذا كان الروائي او كاتب السيرة لا يمنح لمخياله السردي حضوره الفاعل في التعاطي مع تشكيل بنية روائية تتراكب عوالمها، واصواتها وهويتها التي يمكن ان تكشف عن ما يمكن تسميته بـ "السردية الكثيفة" التي تسبغ على الابطال الواقعيين نوعا من التعالي السردي الذي يمكن ان يتفجر من خلاله الواقع والحيوات والصراعات، الاّ ان الروائي وهو نموذج للمثقف العضوي العميق الذي يرى دورا انسانيا ومعرفيا وجماليا للمثقف، يجد في مهمة كتابة هذه السيرة تحت سطوة الايهام الروائي بمثابة موقف من العالم الذي يعيش ازمته الانسانية والوجودية، وازمة انسانه المحاصر والمنفي باغترابات عميقة، وموقف من سعار السلطة والايديولوجيا الذي افقده لذة المعيش والاطمئنان والتواصل، واغترابه عن رومانسية الامكنة الحميمة، واغتراب الطبقة الوسطى التي تمثل روح الحراك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في العراق لحد سنوات الخمسينات..
هذه الرواية/ السيرة هي شهادة عميقة على عذابات المثقف العراقي وهو يرى اغترابه العميق، وموته الانطولوجي الفاضح، وربما هي شهادة على موت الكثير من الاشياء التي تخصه-الاصدقاء، اليوميات، الامكنة، الافكار، الحبيبة - ورغم اصرار البطل الذي يستعيده علي الشوك كنموذج للبطل الاخلاقي، الا ان هذا الاصرار يظل محفوفا بالقلق والخوف والموت الذي افقده صديقه في المنفى وبطريقه تتركه عند هاجس فوبيا السلطة التي تطارده دائما..
انها رواية استعادة، ورواية تذكر، تضعنا عند عتبة الحاجة الضرورية لقراءة تاريخنا السياسي المعاصر الذي يضج بالكثير من الاسرار والفضائح والشهادات والخرابات والاحلام المجهضة والموتى الاحياء.

عرض مقالات: