عندما نعود للتحليل المادي التاريخي الذي انطلق منه فريدريك إنجلز في مؤلفه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، نجده يقول إن التحول في أسلوب الإنتاج يؤثر على شكل العلاقات بين الرجال والنساء، ويربط بذلك بروز الأسرة النووية (وهي الأسرة الأوليّة المكونة من الوالدين والأبناء) مع بروز اضطهاد النساء ربطاً مباشراً بقوله: “ترتكز العائلة المفردة الحديثة على استعباد الزوجة المنزلي، سواء أكانت تلك العبودية سافرةً أم مقنّعة، وليس المجتمع الحالي إلا كتلة تتألف بوجه الحصر من عائلات مفردة هي بمثابة جزيئاتها”.

وباستخدامه لمصطلح “العبودية المنزلية” يربط إنجلز وضع المرأة التبعي مع عملها المنزلي غير مدفوع الأجر، بوصفهما وجهين لعملة واحدة، حيث يعتبر النظام الرأسمالي المرأة والطفل من أدوات الإنتاج، وقد يدرّان مزيداً من الربح عندما يتم استغلالهم.

استغل النظام الرأسمالي هذه البنية الذكورية للأسرة والمجتمع وأعاد إنتاج العلاقات الهرمية والتمييز البنيوي المرتكز على الجنس والعرق والدين والطبقة الاجتماعية وتراتبيات أخرى، تضع البعض في موقع استغلال وتهميش وتمنح البعض امتيازات ووصول أفضل للفرص والموارد.

هنا همّشت الرأسمالية من دور العمل المنزلي، مستفيدة من قيمة عمل ربات البيوت لاستدامة عملية الإنتاج ومراكمة رأس المال، فتقوم المرأة العاملة في المنزل بإعادة شحن طاقة العامل حتى يتسنى له العمل في اليوم التالي، وتلعب دوراً إنتاجياً لعمال المستقبل بلا مقابل.

ترى الناشطة النسوية الماركسية سيلفيا فيديريتشي في مقالها المعنوَن بـ “أجور مقابل الأعمال المنزلية”، أن النظام الرأسمالي عمل على اضطهاد النساء من خلال جانبين أساسيين، أولهما في جعل العمل المنزلي معطى طبيعياً مرتبطاً بالنساء فقط، وثانيهما في جعله عملاً نابعاً عن الحب، وتشير إلى أن النظام الرأسمالي لم يجعل العمل المنزلي “فرضاً” على النساء فحسب، بل دفع به كـ “معطى طبيعي” لأجساد وشخصيات النساء، وبالتالي “حاجة داخلية” و”طموح” مكمّل لكيانهن، ويفترض أن يتطلّعن جميعاً للقيام به من دون مقابل، للتقليل من قيمته واعتباره من المسلمات.

وتضيف فيديريتشي بأنّ هذه المنظومة تستمر من خلال تنشئة النساء على ذلك، وتربيتهن وتدريبهن على “الوداعة، والخنوع والاتكالية، والتضحية بالنفس ونكران الذات، وحتى الاستمتاع بذلك”.

‏وترى فيدريتشي أن تحويل العمل المنزلي إلى “عملٍ نابع عن الحب” قد ساعد النظام الرأسمالي بطريقةٍ مباشرة بحيث ضمن كميةٍ هائلة من العمل المجاني من دون أجر تقريباً، وجعل المرأة بعيدةً كل البعد عن النضال ضده، تسعى بحماسٍ إلى إنجازه بوصفه أفضل ما تقوم به في الحياة”.

نظراً لذلك نلاحظ في مجتمعاتنا اليوم أن مصطلح “ربة منزل” كلمة مرادفة للا عمل “البطالة” حيث يعتبر العمل المنزلي عملاً غير مقدّر، حتى لو اشتكت المرأة من التعب من أعمال المنزل وتربية ورعاية الأبناء، فإنها تقابَل بالقول إن هذه الأعمال تقوم بها كل النساء بشكل طبيعي فلمَ الشكوى؟ بل وتوصم بسوء التدبير والكسل!

‏وكذلك يندر التطرق إلى مسألة العلاقة بين العمل المنزلي غير المأجور وآثاره السلبية على صحة النساء الجسدية كآلام الظهر والمفاصل والقدمين نظراً لاستمرار الوقوف لفترات طويلة، بل وتتجاوز آثاره السلبية الصحة الجسدية لتشمل الصحة النفسية أيضاً.

فقد كشفت دراسة حول التبعات الصحية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل “حيث إمكانية استقلالية المرأة الاقتصادية أقل “عن ارتباط العمل المنزلي غير المأجور بالاكتئاب وبمستويات عالية من هرمونات القلق، حيث تؤثر على الاستجابة السيئة للأجسام المضادة وبالتالي احتمالية أكبر للإصابة بالأمراض المزمنة، بل ويطال تأثيره على وضع المرأة الاجتماعي، فالعزلة المنزلية تحرم المرأة من خوض التجارب الإنسانية ومشاركة الأفكار والأحداث مما ينعكس سلباً على خبرتها وتوسيع مداركها وزيادة معرفتها، وتحرم أيضاً من ما يسمى في علم النفس بـ (الإشباع الوظيفي) وهي حالة عاطفية ناجمة عن استحسان المرء لوظيفته المرتبطة بإنجازاته الملاحظَة والمقدّرة والمأجورة، على عكس العمل المنزلي، لتنعكس بشكل ايجابي على مدى رضاه عن نفسه، وكذلك ما يوفره هذا العمل من استقلال مادي وعيش آمن وحياة مطمئنة، وإقامة علاقات اجتماعية متينة وصداقات حميمة تقدم الدعم العاطفي والمشورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مجموعة نساء اشتراكيات من شبه الجزيرة العربية يهدفن لخلق حالة من التغيير الايجابي في الحراك النسوي وإكمال النضال التحرري المناهض للرأسمالية.

عن منصة “تقدم” – 2 نيسان 2024

عرض مقالات: