القسم الاول:
في يوم 4/3/1989 بعد الظهر وصلتني رسالة مستعجلة وكنت آنئذ مختفيا في مدينة جوارقورنة ، وتوقعت وجود حدث مهم ، لأن الرفاق في منظمات الحزب يستخدمون عادة رسائل مغلفة صغيرة في مراسلاتهم، وعلى الفور فتحت الرسالة وكتبوا فيها : تحية رفيق مام حسين {عارف} بلغ وبأسرع وقت رفاق جبل كوسرت بأن العدو سيشن هجوما في فجر 5/3/1989 على المقر السري في جبل كوسرت !!! ، بعد عمليات الأنفال أصبحت القرى أنقاضا وأن سلطات حزب البعث أطلقت عليها (المناطق المحرمة) ، وبالسرعة ومن دون توقف بدأت بكتابة الرسائل ، ومن المقر أرسلوا الرفيق هه ريم ليلتقي مع تنظيم العمل والتعاون بيني ورفاق المقر السري ، وهذا المقر تم انشاؤه تحت الأرض عند استشهاد شهداء كاني اسپاني في جبل كوسرت، وكان وجود الرفيق هه ريم فرصة جيدة ، كتبت على الفور ثلاث رسائل : الأولى للمسؤول عن المفرزة وكتبت عليها اسم الرفيق المقدام الشجاع الرفيق مام جوامير وكتبت له : في فجر 5/3/1989 ستشن السلطة عليكم هجوما ( مية بالمية) ، الرسالة الثانية للرفيق هه ريم لنفس الغرض حول الهجوم ، كما كتبت له : في المساء ومن دون توقف وبمساعدة الرفاق ستصل إلى الضفة الاخرى وقل للرفاق (أن لا يبقوا في المقر وان يذهبوا إلى المناطق الوعرة في الجبل خلف قرية چناران ) وعليكم الاختفاء ، وكتبت الرسالة الثالثة لرفاق التنظيم الحزبي { النخبة} وكان الرفيق الباسل والقائد في أيام النضال الصعبة خدر گۆماني المشرف عليهم ومن اختصاصهم القيام بأعمال ( الطوارئ) وطلبت منهم ايصال الرفيق هه ريم إلى البحيرة وارسال مواد غذائية للمفرزة بواسطته ، ولقد تم تحقيق كل شيئ بصورة عادية، ومع بداية الظلام أوصل الرفاق الرفيق هه ريم بقارب إلى الضفة الاخرى من البحيرة وبالضبط في مقتبل قرية مێوژي المهجورة الخالية ، ومكث الرفاق قرابة النصف ساعة هناك كي يتأكدوا من سلامة وصوله وأن لا يحدث في تلك القرية شيئ للمقر السري .
بعد ساعة و25 دقيقة من الليل وصل الرفيق هه ريم إلى رفاق المقر، وعاد الرفاق الاخرين إلى جوارقورنة، وعندما علمت بأن كل شيء سار بصورة اعتيادية طبيعية لازمني الهدوء والراحة، وفي ليلة 4 على 5/3/1989 هطلت أمطار غزيرة حتى الفجر، ولحد هذه اللحظة صدى تلك الامطار التي دكت السقف الكونكريتي ﻳُﺮﻥُّ في اذني. وعند الفجر طرقت شقيقتي الشجاعة الحنونة {لطفية} خان (خاتون) باب الغرفة التي انام فيها وحيدا، وقالت كاكة (اخي) انا لطفية، افتح الباب وايقنت بوجود شيء مهم لأنها لا توقظني عادة في الصباح الباكر، ودخلت غرفتي وقالت مدينة جوارقورنة محاصرة من جميع الأطراف من قبل الجيش والجاش، وقلت: كيف عرفتي؟ قالت: من الجيران إذ ارادوا الذهاب إلى البحيرة، واثنان إلى السليمانية ومنعتهم القوات الحكومية وأعادوا الجميع لبيوتهم وأخبروهم بان الخروج ممنوع وان التجوال ممنوع والكل يخضع (لمنع التجول)، كما سمعت منهم بأنهم شاهدوا الدبابات والمصفحات المجنزرة والمدرعات.
وفي الحال أسرعت ولبست وحملت كلاشنكوفي المظلي والمسدس والرمانات وطلبت من اختي الخروج مع العائلة من البيت والذهاب إلى بيت أحد الاقرباء وغلق الباب ، وسأختبئ في مكان ما، وإذا تم اكتشافي سأقاوم حتى الطلقة الاخيرة، وبينما كنا نتحادث اقترحت (انا) بعض المسائل ، نسيبي كاك يوسف حمد اغا اختفى وعاد بعد قليل وقال هيا لنذهب معا ، وقلت : إلى اين ؟ قال لمكان آمن ، ولبست قمصلتي التي غطت الأسلحة وكل ما عندي، وكان الناس يخرجون ويذهبون إلى الجامع واماكن اخرى ، وبكل هدوء فتح باب دكان والده ورفع الباب المصفح ودخلنا نحن الاثنين الدكان ، وانشغل هو ببعض الأعمال وكان يراقب بدقة التحركات في الخارج ولم ير احدا فقام بأخذ حاجة وخرج وانزل الباب المصفح واقفل الباب بقفلين ، وبعد خروج كاك يوسف سمعنا من مايكرفون الجامع الكبير في جوارقورنة النداء الذي طالب أهالي جوارقورنة المحترمين بعدم خروجهم من بيوتهم بجريرة منع التجول وكل من في الخارج يرجى العودة والبقاء في بيوتهم ، وتكرر النداء عدة مرات، وكنت مرتاحا جدا لأنني لست داخل بيت فيه اطفال ونساء وانا الآن لوحدي ، الپیشمەرکە في تلك الأوقات كان ينتظر ان يسطر ملحمة ضد العدو وان يستشهد، أسرعت بإخراج الرمانات ووضعتها مع مخازن الطلقات على منضدة ، وتواجدت عدة اكياس (گواني باللهجة العراقیة) مملوءة ، وفيما بعد علمت بان محتواها انواع من التوت ، وحركت تلك الاكياس وجعلتها متراسا جميلا وجلست على كرسي براحة البال، وفي الاثناء انتشرت القوات جنودا وجحوشا في المدينة واسواقها ، وكنت اصغي إلى احاديثهم وكانوا يتحدثون باللغة العربية ، كانوا يتحدثون ويصدرون القرارات، وسارت الامور إلى المساء بصورة عادية، وقاموا بتفتيش وتحري كل البيوت واعتقلوا عددا من المواطنين وعند حلول الظلام عاد الهدوء للمدينة ، وسمعت صوت اقفال باب الدكان الذي انا فيه ، ووجهت فوهة بندقية الكلاشنكوف نحو الخارج ورأيت بان نسيبي قد جاء إلى الدكان.
جمعت مخازن الطلقات والرمانات وسرنا رويدا رويدا نحو البيت، وللعلم بأن إخوتي وأقاربي وبعص الرفاق من تنظيمات الحزب كانوا على علم بوجودي في مدينة جوارقورنة، وان البعض من الرفاق كانوا على استعداد للمشاركة في المقاومة فيما إذا بدأت المقاومة وسمعوا صوت الطلقات وذلك من اجل إنقاذي.
يتبع:
القسم الثاني
ذكرى شهداء جبل كوسرت وقوات الحزب الباسلة
مر الليل بهدوء ونمت وقد نهضت من النوم متأخرا، وجاءني الرفيق الشهيد {ماموستا أمين} وهو الرفيق الوحيد الذي يعلم بمكان اختفائي ، وابلغني بأخبار سيئة هزتني من اعماق القلب وقال : ان العدو ( السلطة الدكتاتورية) شن هجوما على قوات حزبنا في جبل كوسرت ولنا شهداء وجرحى وأسرى ، كان خبرا صادما اقلقني كثيرا واسودت عيبوني ، وشعرت بارتفاع ضغط الدم، وأحس الرفيق ماموستا أمين وضعي واصفرار وجهي وتدخل قائلا : رفيقي ليس الوقت، وقت الحسرة علينا ان نصمد ونتابع اخبار الرفاق لكي نعلم أين أصبح الرفاق السالمون وما معاناتهم ، وبلا شك ماعدا الشهداء والأسرى والجرحى لنا رفاق آخرون من دون معرفة مصيرهم وعلينا التفكير بهم وبأوضاعهم، وعندما تحدث الرفيق الشهيد أمين وأظهر شجاعته وصلابة جأشه شعرت بالخجل وبدأ العرق يجري في جبيني وحدقت بدقة في عيون الرفيق الذي وقف كالأسد الجريح، وكانت الأخبار تصلنا وهي مختلفة بحيث لم يكن بمقدورنا كيفية التعامل والتصرف بخططنا، وكنا ، انا وماموستا أمين نتحاور ونتناقش ونقول : اذا كان الرفاق يتواجدون في جبل كوسرت فان الرفيق الشهيد جالاك هو قريبك وله الخبرة ويعلم مكان سكنك والسؤال لماذا لم يأت؟. واستمرت نقاشاتنا مع جملة تحليلات لإدارة لعمل.
في يوم من الايام جاء الرفيق ماموستا أمين وقال: ان اثنين من رفاقنا وهما من اهالي كويه استشهدا، والرفيق هه ريم الذي تحدثنا عنه في القسم الاول وقع في الأسر وهو جريح، واسودت عيوني من جديد لعدة ثواني، وفكرت وقلت في قرارة نفسي كان الرفيق هه ريم في جوارقورنة ويعرف العديد من الرفاق وكيف سيكون مصيرهم وإلى اين يتوجهون؟! وتولدت عندي افكار عذبت مخيلتي، واخيرا كنت أفكر واقول حسنا لماذا لم يهتم الرفاق في المقر السري برسالتي، وأصبحوا زادا وضحايا للعدو الذي جاء على بابهم ولم يخطوا خطوات أمنية؟ مع ألف سؤال ولحد الآن بدون جواب، وان رفاق المفرزة يقولون إن الرفيق هه ريم لم يخبرنا بشيء ولم يسلمنا اي رسالة !، حسنا ان كان الامر هكذا لم تستلموا اي رسالة، اذن لماذا نصبتم كمينا في تلك الليلة؟ علما بانكم لم تقوموا بذلك في السابق ولم تضعوا كمينا عند ساعات الفجر، ولكن لو لم تنصبوا ذلك الكمين هنا اسأل إن كنتم في المقر تحت الارض لظفر بكم العدو وتقعون أسرى او شهداء، الحزب لم يشكل لجنة تحقيق واختار الصمت!
في عام 1994 كنت في هلسنكي عاصمة فنلندا بغية السفر إلى موسكو وكان لدي الوقت إلى الساعة الرابعة بانتظار تحرك القطار وعندما كنت اتجول في المدينة شاهدت فجأة أحد المارة امامي ينظر الي ولم أعرفه ولكن عند سماع صوته صرخت هه ريم، هذا أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ ولم أعرف بماذا شعر وأجهش بالبكاء وصاح رفيق عارف وصوته اختنق، آه كم كانت تلك اللحظات (تحرك الاعماق)، لماذا يبكي ويشدني إلى نفسه!! قبلته ومسحت بيدي دموعه وسألت عن أحواله، وأسرعنا ودخلنا أقرب كافتريا، وتبادلنا الأحاديث حتى وصلت إلى السؤال الذي تعلق في مخيلتي مدة خمس سنوات وقلت: عزيزي هه ريم لا تحزن وأسألك: حادثة الماء وجريانه !!، جوارقورنة وكيفية نقلك والرسائل التي استلمتها مني واخبار الهجوم على المقر وإلى اخره....
وفي رده قال هه ريم: في المساء وبالسرعة وصلت إلى الرفاق، ولم يتواجد مام جوامير، الملازم كريم وبختيار كويي حيث ذهبوا في مهمة إلى دشتي كويه، وذهبت إلى الملازم شيرزاد وابلغته بالخبر واعطيته الرسالة وقلت انها من الرفيق عارف ولكن الملازم شيرزاد قال: في هذه الاجواء الممطرة، اي هجوم؟ اي جحوش؟ هكذا رد هه ريم، رفاق المقر يقولون هه ريم لم يسلمنا رسالة ولم يبلغنا بخبر الهجوم شفهيا، والرفاق ينعتون هه ريم بكلمات رديئة ومشينة، وإلى هنا يكفي وعلى الحزب ان يحقق في ذلك الموضوع.
اريد التحدث عن بسالة طبيب في المفرزة الذي انقذ جريحين ( جراحاهما عميق) بشجاعته وتفانيه مع الشهيد جالاك ، وكيفية انزالهما بالبشتين ( قماش يستخدم كالحزام على الملابس الكوردية ) إلى كهف وعلاجهما وإطعامهما الحشيش والعشب والورود الربيعية لمدة شهر ، كما قام بإعطائهما الدواء حتى طابت الجروح وانقذهما من الموت، انهما الرفيقان آسو كاكه خان وهه لكه وت وهنا انحني امام قامات الشهداء : شه بول، ريباز وجالاك ، وانحنى امام طبيب المفرزة ودكتور الحزب الشجاع هۆشنەگ واقول له : رفيق لو كنت في اي بلد آخر لأقاموا لك تمثالا ذهبيا ومنحك مدالية البطولة .
تحية لمدن رانية وجوارقورنة وفي نفس الوقت 5/3/1991 في الانتفاضة الجماهيرية لشعبنا سقط الحكم الدكتاتوري وانتقمنا لشهداء جبل كوسرت وكل شهداء كوردستان.
7/3/2024