السياسة الجديدة
وبهذا الشكل يكون الحزب الشيوعي العراقي قد تخلص من خط آب الذي أعلن في 1964، الا ان جذوره الفكرية ظلت عالقة في اذهان الكثيرين. لقد كان خط اب خطأ سياسيا كبيرا ، وعكس الاختلاف في وجهات النظر بخصوص النظام العارفي وسلوكه السياسي والاقتصادي والإجتماعي، والموقف من الازمة الماثلة والحاجة لموقف متزن وثوري.
على ضوء إجتماع 9 تشرين الاول 1965 ارسل مركز الحزب تقاريراً عنه الى براغ. وقد اعد التقارير كل من عامر عبد الله وبهاء الدبن نوري وعبد السلام الناصري. فدعا عزيز محمد لجنة تنظيم الخارج وعددا من الكوادر الى اجتماع في 18 و19 من تشرين الثاني 1965 وحضر الإجتماع الى جانب السكرتير كل من كريم احمد وزكي خيري وثابت حبيب وعزيز الحاج ونزيهه الدليمي ورحيم عجينة ونوري عبد الرزاق. وتم مناقشة الافكار المطروحة فيه. وأشار عزيز محمد الى ان الكثير من تقديرات وسياسات اب ، لم تعززها الحياة، وانها خاطئة، وان الحزب انتبه لها وخطأها ورفض بوجه خاص موقف الحزب من نظام الحكم يومها، وتقديراته بشأن التأثيرات الخارجية، ومبالغته بشأن الدور الايجابي لجمال عبد الناصر.
انشقاق عام 1967
ادت تراكمات السياسة المتذبذبة بين اليسار واليمين والوسط الى اتخاذ بعض اعضاء وقيادييّ الحزب قرارات في الوقت غير المتسق مع الظروف الموضوعية والذاتية، التي كانت تعاني من قصور شديد. كان انشقاق ايلول 1967 من اخطر واقوى الانشقاقات داخل الحزب الشيوعي العراقي، وجاء نتيجة لصراعات ومواقف سياسية طيلة نصف عقد من الزمن أي منذ عام 1959 أو منذ أن إستبعدت مجموعة الأربعة في المكتب السياسي، سكرتير الحزب سلام عادل وأرسلته الى موسكو للدراسة.
اما صيرورة الإنشقاق فقد تمثلت في ضم اللجنة المركزية لعزيز الحاج بعد عودته من الخارج، الى مكتبها السياسي، وتسليمه مهاماً حزبية كبيرة كالإشراف على لجنة منطقة بغداد واللجنة المنطقية بكاملها والمسؤول عن العلاقات الوطنية للحزب والمسؤولية الأولى في لجنة الدعاية والنشر المركزي والمسؤول عن الاعداد لوثائق المؤتمر الثاني للحزب.
ويشير عزيز الحاج الى وجود صراع بين قيادة الحزب ولجنة تنظيم بغداد حول امور اساسية، ففيما ترى منظمة بغداد ان هناك نهوضاً ثورياً يجب إستغلاله واستثماره، وهي رؤية للكثير من الكوادر الحزبية واغلب قاعدة الحزب خاصة مع الظروف الجديدة في العراق والوطن العربي وهزيمة 5 حزيران 1967، كانت ترى قيادة الحزب رؤية مخالفة.
ويذكر زكي خيري عضو المكتب السياسي حينها (كان وجهتنا عقد مؤتمر للحزب. غير أن البعض كان يخاف من المؤتمر، وكمثال على ذلك ما قاله أحد المنشقين ـ حسين جواد الكمر: ومن الذي سيجمع المؤتمر سيجمعه هؤلاء القادة انفسهم –يعني اللجنة المركزية –ولن يخرج المؤتمرعن طاعتهم لما لهم من براعة وقدرة على المناورة. وعندما تأكدوا ان الحزب كان جادا في عقد المؤتمر عجلوا في شق الحزب علنا ووضعوا في جدول اعمالهم استخدام العنف المسلح والارهاب الفردي لا ضد الحكومة بل ضد الحزب وكوادره وقادته).
من جهة اخرى يشير بهاء الدين نوري (في صيف 1967 كان اعضاء المكتب السياسي للحزب الموجودون في العاصمة انا وزكي خيري وعزيز الحاج. ولاحظنا ان الحاج يأتي دوما الى اجتماعاتنا التي تعقد في بيت زكي خيري، ويتهرب من أن نتعرف على بيته ونجتمع فيه، فقررنا في المكتب السياسي وبموافقة الحاج ان تكون اجتماعاتنا اللاحقة في بيوتنا الثلاثة بالتناوب، وحين حل موعد الإجتماع في بيت الحاج اوائل ايلول، تغيب عن الحضور وانقطع بعض الأيام انقطاعا كليا مما اثار قلقنا، واستلمنا رسالة منه زعم فيها انه سافر الى زرباطية بأمل الحصول على قطع من الأسلحة لما سمي بخط حسين ولكننا لم نعرف بالضبط اين ذهب وماذا فعل).
وهكذا شكل المنشقون منظمة شيوعية باسم الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية، سكرتيرها عزيز الحاج واعضاء مكتبها السياسي كل من حميد خضر الصافي واحمد محمود الحلاق وكاظم الصفار ومتي هندو. ويشير حنا بطاطو حول الحاج قائلاً (وعندما عاد الى العراق في كانون الثاني 1967 كلف بمسؤولية منظمة الحزب في بغداد ، وفي شباط التالي ارتقى ليصبح عضوا في المكتب السياسي، ولكنه كان قد ارتبط فعلا بالكادر الثوري وبأمل تجنب حصول انشقاق في صفوف الحزب، حاول تسلم القيادة بأعتقال اعضاء اللجنة المركزية، ولكنه فشل في مهمته هذه، فقاد الكادر الثوري والمتعاطفين معه الى خارج الحزب).
واصدر المنشقون بيانا في اليوم التالي 18 ايلول أدانوا فيه اللجنة المركزية وخط اب، واعلنوا عن تشكيل قيادة مركزية مؤقتة تأخذ على عاتقها عملية تطهير مبدئية جريئة في جميع الهيئات المركزية واللجان الإساسية في نطاق الحزب كله ولاسيما بغداد وفرع كردستان. ووعد المنشقون بأن حركتهم ستجري عملية تطهير لينينية في اللجنة المركزية اولا ثم في الهيئات القيادية الاخرى بوجه عام.
وقد انضم الى هذا الانشقاق تنظيمات من الفرات الإوسط ومدينة الثورة والخلايا العمالية المرتبطة بمكتب بغداد العمالي وقطاعات واسعة من القاعدة الحزبية وبعض المحليات في العاصمة بغداد.وبقي البعض بلا موقف ومنهم عضو التنظيم المركزي احمد محمود الحلاق قبل أن ينضم اخيرا للإنشقاق. وحاول اخرون في الكوت والجنوب الإنشقاق، لكن هذه المساعي فشلت وتداركت بعض الكوادر ضرر الانشقاق على الحزب. ودارت معركة تنظيمية سياسية وفكرية بين التنظيمات الحزبية التي وصل اليها حمم هذا الانشقاق، وهذا ما عبرنا عليه بالسياسة المضطربة التي سلكتها قيادة الحزب في السنوات الاخيرة.
وعلى الصعيد السياسي تبنى الانشقاق خطاً معاديا للنظام العارفي، ودعا الى تسليح الجماهير والعنف الثوري المنظم والنضال الشعبي المسلح في المدن والريف بهدف اقامة حكم الجماهير. وكما جاء في صياغة اخرى الى اقامة نظام ثوري شعبي ديمقراطي بقيادة الطبقة العاملة.
وعن الإنشقاق يشير زكي خيري (في 17 ايلول 1967 اعلنوا بيانهم الانشقاقي. ولحسن الحظ كان بهاء قد افلت من معتقلهم في بيت ام صفدر والتحق بالحزب وقاد اجتماع اللجنة المركزية الذي انعقد على الفور لمعالجة الانشقاق، اذ كان عزيز محمد لايزال في خارج العراق، فدعا الى التنديد بالانشقاق بحزم ورفض الرضوخ للمنشقين المطالبين بالاستقالة من اللجنة المركزية. ولم يقف بعض اعضاء اللجنة المركزية مثل هذا الموقف).
عقدت اللجنة المركزية (الأم) اجتماعا لها في 19 ايلول حضره الأعضاء المتواجدين في بغداد ولم يحضره زكي خيري المكلف بسكرتارية اللجنة المركزية إذ كان معتقلا لدى المنشقين، واتخذت قرارا يؤكد ان ما حدث لم يكن سوى محاولة زمرة انقسامية لفرض نفسها بالاسالبيب الفوضوية على قيادة الحزب. وادان ما اقدمت عليه هذه المجموعة وقرر طرد اقطابها من الحزب رمزي (عزيز الحاج) ووليد (حسين جواد الكمر) وبشار (بيتر يوسف) وفخري (سلمان خضر) وعائد (عبدالحميد الصافي) وداود (مالك منصور). ودعا الإجتماع الى عقد الكونفرنس الوطني الثالث.
وقالت اللجنة المركزية انها تمارس صلاحياتها وواجباتها في الدفاع عن كيان الحزب ووحدته، وتؤكد من جديد تصميمها على ان تدرس وتحل المعضلات الهامة الفكرية والتنظيمة والسياسية بالتشاور مع الكوادر الحزبية. وفي نفس الوقت ادانت بعض المحليات في بغداد هذا الإنشقاق كلجنة مدينة الثورة ولجنة الكاظمية واللجنة النسائية ولجنة اطراف بغداد وأعلنت تصميمها على الدفاع عن وحدة الحزب.
يقول العضو السابق في المكتب السياسي زكي خيري (لم يكن من اعمال العنف ممكنا سوى الارهاب الفردي كاغتيال بعض الجواسيس الصغار او وضع قنبلة هنا وهناك..والخ من الاعمال التي لاتؤدي الا الى الانعزال عن الجماهير، مالم تكن هناك انتفاضة شعبية. وقد رفض البارزاني والبعث السوري تسليحنا كما اسلفت، والعامل الاكثر اهمية وحسماً، وهو ان الجماهير لم تكن بمزاج يتعاطف مع النضال المسلح لا في كردستان العراق ولا في الجنوب، وتفاقم الصراع في منطقة بغداد التي انشطرت من القمة الى القاعدة. وكان عزيز الحاج يؤجج الصراع وراء الكواليس بحكم دوره كمشرف وهو ما اوكله اليه المكتب السياسي. وقد حضرت جملة اجتماعات ورأيت بعيني تدهور العلاقات بين الرفاق الى حد العداء المكشوف، وكأنهم من اعضاء حزبين متناحرين، وليس اعضاء حزب شيوعي واحد، اجتازوا سوية المحن والشدائد والانتصارات والاخفاقات. كانت مأساة مروعة غذاها عزيز الحاج بطل الكفاح المسلح ولا عجب، فقد اسكروا الفأرة فأشهرت سلاحها على القط! كان في الحقيقة يعمل على هدم الحزب من الداخل كما برهن عمليا بعد سنة واحدة فقط، كان يخرب الحزب كفأرة واية فأرة)!.
من جانب اخر ترى القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ان من اسباب الانشقاق، اعتقاد لفيف من كوادر الحزب بان التخاذل وعدم استخدام العنف، سيحول الحزب الى حزب هامشي، ويضعف دوره على المسرح السياسي في العراق تدريجيأ، وانه يجب اعادة الحزب الى دوره الطليعي، من خلال الكفاح المسلح، لذا تبنت القيادة المركزية الكفاح المسلح اسلوبا رئيسيا لانهاء الحكم القائم في العراق بينما كان موقف اللجنة المركزية هو مخالف لهذا الشعار وفق معطيات نوع الكفاح المسلح، ومدى تقبل الجماهير للفكرة، بينما حاولت القيادة المركزية توظيف السخط الشعبي لاسيما يعد الخامس من حزيران 1967 ليكون من اهم الجوانب التي تستند عليها لتطبيق فكرة التشهير باللجنة المركزية، وقد اتخذوا من الاهوار مركزا لهم.
وفي تلك الفترة في تشرين الثاني 1967 هرب من سجن الحلة مجموعة من السجناء الشيوعيين الذين يزيد عددهم عن اكثر من ثلاثين سجينا سياسيا، فأضفوا على نشاط الحزب دعماً. وعلى ضوء ذلك اتخذت الحكومة قرارا بغلق السجن ونقلهم الى نقرة السلمان في مدينة السماوة.
المصادر
عزيز سباهي عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج3
شوكت خزندار سفر محطات الحزب الشيوعي العراقي رؤية من الداخل
عزيز الحاج صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق
زكي خيري صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم
مذكرات بهاء الدين نوري
حنا بطاطو الشيوعيون والبعثيون والضباط الاحرار ج3