المبحث الأول.. العامل الذاتي

في خريف العام 1962، أي قبيل انقلاب شباط الأسود، ظهرت في الحزب تحليلات خاطئة وحيدة الجانب لطبيعة الوضع القائم آنذاك. فقد استنتجت افتتاحية مناضل الحزب بتفاؤل كبير (ان الجبهة المعادية للشيوعية قد تفتت وفقدت عنجهيتها وعادت الى عناصرها الاولى، وهي مصابة باللهاث والخور)، في الوقت الذي كانت فيه هذه القوى المعادية قد أكملت تعبئة صفوفها وبدأت تتهيأ للانقضاض على الشعب، مستثمرة ازمة الحكم وعزلته.

وفيما كان الحزب الشيوعي يواصل نضاله دفاعاً عن الثورة وانجازاتها، شنت حكومة قاسم حملة ضده وتوجتها بموقفها العدائي من القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي الذي طالب بإصرار إقرار الحل السلمي في كردستان. وشكل ذلك مثالاً صارخاً على ميل البرجوازية الى التفريط بمستلزمات تعبئة قوى الشعب لصد اخطار المؤامرة مقابل صيانة سلطتها1.

وهكذا نجح انقلاب 8 شباط 1963 وجاء البعثيون الى السلطة! ولعل من الإنصاف الإشارة الى أن العامل الرئيسي في فشل المقاومة المسلحة ضد انقلاب 8 شباط لا يكمن في الخطأ الاستراتيجي لسياسة الحزب العامة فقط، بل في خطة الدفاع السلبية التي اعتمدها الحزب في صد المؤامرات. فقد كانت خطتنا ان لا نكون المبادرين الى النضال المسلح وان لا نستخدم الاسلوب الكفاحي ضد حكومة وطنية (حكومة قاسم)، بل اللجوء الى النضال المسلح للدفاع عن هذه الحكومة في حالة تعرضها الى انقلاب رجعي مسلح. ويتمثل جوهر هذا الخطأ في ترك المبادرة للعدو، لثورة الردة، لتختار انسب لحظة، للقضاء ليس على قاسم فحسب، بل وعلى حزبنا كما كانت تحلم، ولتسحق الحركة الثورية الديمقراطية بأكملها2.

لم تمض سوى فترة قصيرة على استيلاء البعث على السلطة في البلاد حتى اندلعت مجددا الحرب في كردستان في 10 حزيران عام 1963، وبشكل أعنف واكثر قوة. ومع تجدد الحرب في كردستان سادت الحركة الجماهيرية موجة انتعاش كبيرة، خاصة بعد ان انضم اعضاء الحزب الشيوعي العراقي الى الجبهة الثورية والكفاح المسلح لمقاومة النظام البعثي.

يشير تقرير الكونفرنس الثالث للحزب الذي انعقد عام 1967الى أن عودة الحركة الكردية للنضال ضد السلطة، أنعش الحراك الشعبي مما عزز من فرص الحزب للعمل من اجل اعادة تنظيم صفوفه ومركزته وتقويته باعتبار ذلك من الشروط الأساسية لخوض نضالات ثورية فعالة3.

في 3 تموز 1963 قامت انتفاضة الشهيد حسن سريع في معسكر الرشيد، ولكنها سرعان ما أجهضت وتم إعدام الجنود الابطال مع قائدهم حسن سريع. وكان التنظيم العسكري قد سبق وطلب من الحزب دعمه للقيام بانقلاب على نظام الحكم، الا ان قيادة الحزب رفضت ذلك واعتبرته خرقا للمبادئ ومنافيا للضبط الحزبي، الأمر الذي لم يلتزم به التنظيم العسكري، وواصل عمله وعبأ اكثر من الفي عسكري للمهمة. ولعل من أهم أسباب فشل عمل هذا التنظيم افتقار قياداته الى القدرة على ضبطه وتوجيهه فضلا عن فقدان قواعد التنظيم المركزية، وضعف الظروف الذاتية التي لم تكن مهيأة، لأن التنظيم الشيوعي مشتت واغلب القيادات العسكرية وحتى المدنية كانوا اما معتقلين او سجناء، ناهيك عمن قتل او اعدم4 .

ومن المؤشرات على ضعف أداء أولئك الثوار الأبطال، تقديم موعد العمل الى الثالث من تموز خشية من افتضاح أمر العملية بعد إلقاء القبض على جنديين من المنتفضين. لقد سُجلت مأثرة انتفاضة معسكر الرشيد كصفحة مضيئة في تاريخ الشيوعيين، في مواجهة الدكتاتورية والأساليب الفاشية التي سادت تلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق الحديث. كما اثبتت ضرورة خوض النضال تحت القيادة المتمرسة والواعية.

انفرد عبد السلام عارف مع مجموعة من الضباط القوميين والناصريين بالسلطة بعد انقلابه على البعثيين في تشرين عام 1963. وقد حظي الانقلاب بتأييد قوي من جانب القاهرة، وكان اغلب الضباط المشاركين فيه من المتعاطفين معها، كما حظي الانقلاب ايضا بتأييد القوى الرجعية في الداخل والدول الاستعمارية5.

ومثّل الانقلاب استمراراً للنهج الذي سارت عليه الطغمة العسكرية المهيمنة، فلم تتوقف حمامات الدم في عهد الحكم الجديد، الذي عمد الى تنفيذ جميع احكام الإعدام التي كانت قد صدرت في عهد عبد الكريم قاسم بحق ابناء الموصل وكركوك وهم بالعشرات. ورغم ان اعدادا كبيرة من الموقوفين السياسيين والمحجوزين في السجون ممن انهوا محكومياتهم قد اطلق سراحهم، فان السجون ظلت مطبقة على اعداد كبيرة من المسجونين والموقوفين السياسيين. وبقي سجن نقرة السلمان الرهيب يعج بالكثير من الشيوعيين الذين يقضون السجن بالأحكام الثقيلة، حتى اغلق في عام 1968.

في هذه الفترة كان مزاج لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي العراقي وآراؤها معادية لعارف بلا تردد، وكان نظامه مدانا بعنف باعتباره دكتاتورية عسكرية رجعية. وتم التأكيد على ان التجربة اثبتت مرة اخرى ان الحكم العسكري ومهما كان شكله، لا يستطيع حل مشاكل الشعب6.وقد حافظ الشيوعيون على هذا الخط من تشرين الثاني 1963 الى ايار 1964.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * الحلقة الاولى من كتاب دور وتأثير الاجهزة الامنية والمخابراتية على حركة الانصار الشيوعيين في العراق

[1]من وثائق الكونفرنس الثالث للحزب الشيوعي العراقي اعداد علي محسن مهدي ص 26 و27

2 المصدر السابق ص35

3 المصدر السابق ص37

4فيصل الفؤادي الحزب الشيوعي العراقي والكفاح المسلح ص 69

5عزيز سباهي عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج3 ص 11

6حنا بطاطو الشيوعيون والبعثيون والضباط الاحرار ص 349

عرض مقالات: