الكتاب من منشورات بيت الياسمين للنشر والتوزيع لعام 2021، يقع في 383 صفحة من الحجم المتوسط، مع مجموعة متنوعة من المصادر والموسوعات، والدوريات والكتب العربية والأجنبية.

شرفني الصديق العزيز والباحث المتمرس الدكتور فالح مهدي بنسخة من مؤلفه القيم هذا الذي عالج فيه مسالة التشيع من خلال استقراء الفكر الشيعي الذي يشغل حيزاً واسعاً، ومتميزاً احياناً، في كثير من المجتمعات الإسلامية، بغض النظر عن تبنيها لهذا الفكر من عدمه.

لقد وجدت في هذا السفر البعيد الأغوار إضافة جادة ونقلة علمية متميزة الى ما تجلى عن هذا الفكر من خلال ما قدمه لنا كثير من الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع، حتى اولئك الذين لم يتناولونه بحيادية علمية وباصطفاف مذهبي لا يُعتد به في الدراسات العلمية الرصينة للظواهر الاجتماعية.

لقد جاء اهداء هذا البحث الرصين موفقاً حينما وضعه صاحبه امام " شرفاء العراق وفي مقدمتهم ابطال الانتفاضة، من مات ومن عاش من اجل خلق وطن يليق بهم”. تنعكس اهمية الدقة في هذا الإهداء الجميل الى الإشارة لكثير من منتسبي الفكر المطروح للبحث كجزء من شرفاء العراق المعنيين بالإهداء.

سأتجاوز فاتحة الكتاب التي تناولت معظم القادم في فصوله، وابدأ في ملاحظاتي هذه من الفصل الاول الذي ناقش " مقدمات في اللغة والثقافة والفكر " متناولاً اللغة السامية كمرشد الى " مهد الإنسانية في افريقيا”، هذه القارة التي تجاهل اهميتها التاريخية الفكر الذي لم ير فيها إلا مصدراً من مصادر اثرائه الذي شكل أسس نظامه الرأسمالي الاستغلالي، تاركاً اهل الوجود الإنساني الأول يشكرون مستغليهم بما يتفضلوا به عليهم من نتاج خيراتهم واسباب استمرار حياتهم اليومية. تأتي اهمية الإشارة في هذا المؤَلَف القيم الى الدور المتميز لحضارات السومريين والبابليين والآشوريين ولغاتهم من خلال إغنائها العالم بمفردات الحضارة التي انعكست على حياة كثير من شعوب اليوم حتى بعد مرور هذه الآلاف الكثيرة من السنين.

والملاحظ هنا ان الباحث تناول الحضارة الساسانية هنا بتقييم تتناقص ايجابياتها كلما جرى التوغل كثيراً في التعريف بمفهوم هذه الحضارة. واستناداً الى ذلك والى ما جاء في الفصول القادمة من الكتاب حول هذا الموضوع، ارتأيت مناقشة هذا الأمر في موضع آخر من هذه الملاحظات.

مناقشة الفكر الشيعي واستقراء مكوناته التي عالجها الباحث في بحثه هذا تنطلق من مناقشة البيئة الفكرية التي رافقت مجتمعات نشوء وتطور او انتكاس هذا الفكر. الفكر الشيعي تبلور كنتيجة او نتائج لصراعات داخل المجتمعات الإسلامية ساهمت فيها جميع الأقوام التي تبنت هذا الدين طوعاً او كراهية. وما نعيشه اليوم من تدهور تعيشه الهوية الثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية ما هو إلا نتيجة لهذه الصراعات.

لقد قامت فلسفة الفكر الشيعي العقائدي الاول على اعتباره يتمتع بخصائص ثابتة منذ انطلاقته الأولى التي يربطها مريدوها بحياة رسول الإسلام ومن كان معه من اهل بيته، وهذا ما اشار اليه محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة واصولها. لذلك ينظر الشيعة العقائديون الى اصالة المذهب التي لا علاقة لها بما ادخلته عليه الاقوام الاخرى، فهذه العقيدة هي: عربية الأصول اولاً، وأنها تبلورت في الوقت الذي لم تتأثر فيه العقيدة الإسلامية بثقافات اخرى دخيلة غير عربية ثانياً. ما عاشه هذا الفكر وما ترعرع فيه وما تبلور عنه سلباً او ايجاباً بعد مرحلة التأسيس الأولى، ساهم فيه الى جانب العرب جميع الاقوام الاخرى التي لم تجعل من المذهب فقط، عامل تبعثر وتشظي وحتى احتراب، بل وضعت النص الديني المؤسِس على اسنة الحراب من خلال اختلاق اطروحات التفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ، وحتى اختلاق الاكاذيب التي ارتبطت بالغلو وبتجهيل الأتباع وشدة ربطهم في احابيل الانقياد التي لم تتخلص منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى يومنا هذا.

انطلاقاً من هذه القناعة فإنني قد اذهب الى غير ما ذهب اليه الصديق الباحث القدير فالح مهدي بإفراز الأثر الفارسي ووضعه في واجهة العوامل التي ربطت هذا الفكر بكثير من سلبياته التي يعيشها اتباعه اليوم.

لا خلاف فيما توصل اليه الباحث حول الآثار السلبية التي تركها بعض الفرس على الفكر الشيعي من خلال ما قدموه من اطروحات لم تزل تشكل العمود الفقري في المصادر الشيعية المتداوَلَة حتى يومنا هذا. وإذا ما نظرنا الى هذا الأمر نظرة موضوعية علمية سنتوصل الى التحليل القائل بان هذه الآثار السلبية التي اساءت الى الفكر الشيعي والتي تمخضت عن اطروحات بعض الفرس، جرى ترسيخها واعطاءها هذه الأهمية من قبل العرب الشيعة الذين لم يقدموا لتابعيهم من البدائل المذهبية ما يغنيهم عن الالتزام بأكاذيب بعض الفرس وجعل نصوصهم من اهم ما يستند عليه حتى من يُسمون " بمراجع المذهب الكبار " في مناقشاتهم الفقهية واحكامهم الشرعية. فالانحدار الفكري الشيعي اذن هو من انتاج بعض الفرس وإخراج فقهاء هذا المذهب من العرب بالدرجة الاولى. لذلك فلا لائمة تقع على غير العرب الآخرين إن تبنوا هذا الفكر ايضاً، إذا ما رأوا اُصلاء هذا المذهب وهم عاجزون عن تقديم البديل الأصح والأكثر انسجاماً مع البيئة التي نشأ فيها مذهبهم.

ومن الناحية الأخرى فإنني لا اتفق مع الصديق الباحث العلمي الدكتور فالح في انتقاصه من الحضارة الساسانية كظاهرة تاريخية ترتبط بشعب وليس بحاكم معين او عالِم او فقيه بذاته، بغض النظر عما ساد هذه الحضارة من ظروف افرزت كثيراً من التبعات السلبية سواءً على مجتمعها بالذات او على المجتمعات التي لها علاقة بها والمتأثرة بتطوراتها. انني اعتقد بعدم صحة تقييم حضارة مجتمع ما من خلال ما يمارسه المتسلطون على هذا المجتمع وما يتركونه من بصمات سوداء على صفحات الحضارة المعنية، او حتى بعض ما ينعكس من ثقافة رموز لهذه الثقافة ودورها الريادي في المجتمع. الحضارة هي نتاج اجتماعي لشعوب مرت بمراحل تاريخية مختلفة بلورت فيها التراكم الكمي والبعد المعرفي الذي توفر لديها على شكل نمط معين من التعايش مع نفسها او مع المجتمعات الأخرى التي تتأثر بها. وعلى هذا الاساس فإن ما تركه بعض الفرس من آثار سلبية على الفكر الشيعي لا يمكن ان نوظفه للنيل من الحضارة الساسانية، وإلا فإننا سوف نتخذ موقفاً آخر من مجمل الثقافة العربية الإسلامية إذا ما علمنا بأن أحد أبرز ممثلي الثقافة العربية كالمتنبي يصرخ بملء فمه: لا تشتري العبد إلا والعصا معه ......إن العبيد لأنجاس مناكيد، او حينما نعلم ان أشهر الفلاسفة العرب ابن رشد يتبنى مقولة عدوه الفكري الغزالي في فتواه: حجب العوام عن علم الكلام، هذه المقولة التي تركز للجهل والتخلف الفكري في المجتمع.

إن مَن لم يقرأ كتاب الباحث العلمي فالح مهدي هذا، ولم يطلع على منهجه التنويري الذي طرحه في كثير من مؤلفاته الأخرى، سيخرج، حين قراءته لهذا الكتاب فقط، بنتيجة توحي وكأن صاحب البحث متعلق بالجذور القومية المتعصبة أكثر مما هو باحث علمي رصين يبحث عن الحقيقة في اعماق المصادر الكثيرة القيمة التي استعملها في بحثه هذا. وما يؤيد ذلك هو ما خرج به الفكر التنويري للدكتور فالح الذي ابى عليه فكره هذا إلا ان ينصف الحضارة الساسانية بالرغم من موقفه السلبي منها حينما يقول على الصفحة 29 من مؤلفه القيم هذا:

"" نعم ان الحضارة الساسانية كانت من الحضارات الكبيرة كإمبراطورية، وهنا نعني تغليب منطق القوة في العالم القديم "".

وتغليب منطق القوة هذا لا يمكن اعتباره شائبة اتسمت بها الحضارات القديمة، لأن هذا المنطق هو منطق العصر الذي سادت فيه هذه الحضارات، ولا يمكن عزل الحضارة العربية الإسلامية عن هذا المنحى. ثم يواصل الدكتور فالح منهجه العلمي ويشير على نفس الصفحة الى:

 "" لقد كان العرب المسلمون معجبين بالتنظيم الإداري الساساني، وهم على حق، فقد كان الساسانيون بارعين في هذا المجال ""

والباحث نفسه يؤكد ذلك في اشارته على الصفحة 306 من سفره الجميل هذا حينما يقول:

"" حيث كان اقتصاد المسلمين قائماً على الغزو بالدرجة الأولى فهو اقتصاد ريعي وطفيلي"

والغزو كما نعلم لا يمكن فصله عن العنف والقوة التي يستعملها الغزاة.

أما على الصفحة258 فيتجه المفكر فالح الى انصاف الحضارة الساسانية بشكل أكثر وضوحاً حينما يشير الى تبني المسلمين لبعض انجازاتها، إذ يقول على الصفحة 258:

"" اما الزراعة والضرائب فقد اخذ الإسلام بالنظام الذي كان عند البيزنطيين والساسانيين، ولم يبتكر نظاماً اقتصادياً ""

ان هذه المنهجية العلمية التي يتمتع بها الدكتور فالح تشجعنا على الوقوف معه بوجه الهجمة الشرسة من الشيعة الحاكمين في ايران اليوم على مناطق متعددة من المجتمعات الإسلامية، خاصة الشيعية منها ، متسترة بالدين عموماً وبالتشيع المشبع بالروح القومية الاستعلائية التسلطية ثانياً ، لفرض الاجندات السياسية والاقتصادية والفكرية التجهيلية التي يتبناها هذا التشيع ، دون ان يؤثر ذلك على موقفنا من الشعب الإيراني ومن تاريخه النضالي وسعيه حالياً للتخلص من النكبات الجسام التي فرضها النظام الطائفي المتخلف من الحاكمين باسم المذهب الشيعي بكل ما يحمله هذا التشيع من اسفاف واستخفاف بالمجتمعات التي يسعى لتخريبها وابعادها عن مواكبة الحضارة التنويرية في عالم اليوم . إن النهج العدائي الذي تسير عليه الطغمة الحاكمة في إيران والمستند على العنف ونشر السلاح في الدول التي تسيطر عليها عبر عصابات مليشياوية مستهترة، تضيف الإرهاب الشيعي الإيراني الى قائمة المنظمات الإرهابية التي نشرها الإسلام السياسي وتنظيمات الإخوان المسلمين في المجتمعات العربية والإسلامية. وإلى ذلك يشير الباحث فالح على الصفحة 336 من بحثه الواسع الابعاد هذا حينما يقول:

"" الإسلام الشيعي بنسخته الإيرانية استمد الكثير من السيد قطب تحديداً، وكتاباته عن الدولة والمجتمع في الإسلام. كما ان حزب الدعوة العراقي الذي تأسس في ستينات القرن الماضي استمد منهجه من كتابات سيد قطب ""

هناك ثلاث ملاحظات اخرى تتعلق ببحثه هذا وددت مناقشتها مع الصديق فالح طامعاً في سعة صدره وصبر الباحث العلمي فيه.

الملاحظة الأولى التي تطرق اليها بشكل هامشي والمتعلقة بالمهدوية التي انتجت فكرة الانتظار التي ساهمت وتساهم في ترسيخ الخنوع لدى كثير من التابعين لهذا المذهب، دون ان يفكروا بنتائج هذه التبعية العمياء، لأنهم محجوبون اساساً عن التفكير.

لقد كان بودي لو ساهم الصديق فالح بتوجهه التنويري من تسليط الضوء على هذه الفكرة التي سبقه في مناقشتها بإسهاب، الحوزوي احمد الكاتب مفنداً إياها جملة وتفصيلاً، مستنداً في ذلك على كثير من المصادر العلمية الرصينة. إن المساهمة التنويرية ليس فقط في " استقراء ونقد الفكر الشيعي " بل وفي تفكيك كثير من معطياته الفكرية التي دخلت عليه والتي جعلته العوبة بيد الحاكم المتسلط او الفقيه المتعنت.

الملاحظة الثانية تتعلق بموضوعة الغلو الذي رافق كل ما جاءت به الاطروحات الدخيلة على هذا الفكر والتي حاربها الرموز الأوائل لهذا الفكر. لقد اتسعت مدارات الغلو في الوقت الحاضر، وكنتيجة لما جاء به التشيع المتأخر من جميع الاقوام التي رافقته، حتى العربية منها، بحيث اصبحت تؤدي اكاذيبها المحبوكة عاطفياً الى الانتقاص من شخص المُغالى فيه او الاستهزاء به. ولا ندري لماذا يصمت صمت القبور كل اولئك الذين يضعون أنفسهم في مواقع المرجعية المذهبية امام هذا الاستهزاء برموز مذهبهم التي يصفونها بالمقدسة، في الوقت الذي يتعرض فيه هذا التقديس الى اكاذيب منبرية منظمة اصبحت تشكل مصادر مالية ضخمة لمريديها.

الملاحظة الثالثة والأخيرة تتعلق بتوحيد بعض المصطلحات المستعملة في هذا البحث والمتعلقة اساساً بالعلاقة بين العرب المسلمين وغيرهم. فهل كانت هذه العلاقة علاقة غزو كما جاء على الصفحة 179 مثلاً ؟، وكلنا يعلم ماذا يعني الغزو وكيف يتم وما هي تبعاته. وربما تبلورت علاقة العرب المسلمين مع الأقوام الأخرى على هذه الشاكلة التي كانت سائدة بين القبائل العربية آنذاك. أو انها كانت علاقة احتلال، كما ورد على الصفحة 152، علماً بان الاحتلال ظاهرة لم تكن واردة في مفردات العلاقات التي كان يؤسس لها العرب سابقاً والعرب المسلمون لاحقاً. الاحتلال ظاهرة تبلورت مؤخراً تتجلى بالسيطرة على ارض البلد وموارده بشتى الطرق لتحقيق مآرب اقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى.

او ان هذه العلاقة هي علاقة فتح اسلامي، كما جاء على مواقع كثيرة اخرى من هذا البحث، له اغراض دينية فقط ولم ترتبط بالغنيمة او السبايا التي اصبحت ملك اليمين فيما بعد والتي انتجت فقهاً خاصاً بها.

كما ارى في توحيد المصطلح عاملاً هاماً لفهم شخصية الكليني الذي وضع اهم ما يستند اليه الفكر الشيعي اليوم. فهل كان الرجل فارسي الثقافة، كما جاء على الصفحة121، او ان ثقافته كانت عربية بلباس اسلامي كما جاء على الصفحة 130؟

هذا البحث الذي اجراه الكاتب القدير فالح مهدي متشعب الاذرع وعميق الأغوار وفيه الكثير ما يجعله مصدراً هاماً من مصادر البحث في الفكر الشيعي وكل ما رافقه من تطورات سلبية او ايجابية. انه يتضمن ارهاصات فكرية تشير الى ارتباط هذا المذهب بعوامل سياسية واجتماعية وفكرية ايضاً كالجهل والتجهيل والتفسير والتأويل والنفس والروح والكثير الآخر الذي يغني التوسع فيه المعارف حتى خارج نطاق الفكر الشيعي.

ارجو ان لا اكون قد أطلت الحديث، بالرغم من انني اعتقد ان المنهجية العلمية للمفكر فالح مهدي تقود من يتحدث معه شفاهة او تحريراً الى الطمع في الغور معه في اعماق بعيدة يزيد ولوجها من الاقتراب من انوار الحضارة ومعطيات التمدن التي لا يمكن القفز عليها حين التوجه للعمل على تحقيق كل ما ينفع الناس.

مع جزيل احترامي للباحث الفذ فالح مهدي واعتزازي بصداقته.

عرض مقالات: