و حرقوا البيت !

 و يرى العديد من المراقبين و المؤرخين، ان مقتل ابو الهوب بتلك الطريقة الإجرامية و غيابه، لعب دوراً كبيراً في تصعيد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض في محلات السكن و الاسواق و في اماكن العمل، حيث انه قد حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس او ثأراً للشهيد ابو الهوب، او مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك . .

في وقت كان فيه المقدم (طاهر يحيى) القومي الإتجاه هو مدير الشرطة العام، و كان ساعياً للحفاظ على مقعده بأي ثمن، حتى تسبب في نشاط معاونين وضباط شرطة في ملاحقة و ضرب العناصر الديمقراطية و اليسارية . . و خاصة السابقين منهم حيث لم يجر ايّ عمل او سعيّ في تنظيف اجهزة الشرطة و الأمن السعيديّتين، رغم طرد و معاقبة كبار ضباطهم الذين لم يتجاوز عددهم عدد اصابع اليدين، لإنكشاف ادوارهم القذرة التي لم يعد ممكناً اخفاؤها، في ممارسة انواع العقوبات الفردية و الجماعية بحق السجناء السياسيين في فترة الحكم السعيدي، التي راحت ضحاياها اعداد كبيرة من السجناء السياسيين و خاصة من الديمقراطيين و اليساريين، كمجازر سجن الكوت و سجن بغداد المركزي على سبيل المثال . .

فنشط اولئك الضباط و المعاونون ذوو انواع الخِبَرْ في ملاحقة و الإنتقام من الديمقراطيين و اليساريين بما اكتنزوه من تدريبات و خبرات سيئة، نشطوا في محاولات تحطيمهم، و في حماية المعتدين سواء كان مقابل رشاوي مالية او مقابل دعم حكومي، اضافة الى تزويدهم باسلحة او بالوثائق الخاصة بالافراد و العوائل، بعيداً عن عيون القانون و من يدّعون بحمايته.  

و صار صعباً على الوالد العودة الى البيت، و بقي عائشاً في بيوت الاقارب و الاصدقاء و في عدد من البنسيونات ذات السمعة الحسنة مع مناضلين آخرين، و صرنا نلتقي به خارج البيت . . و عمل الوالد لتلاحمنا كعائلة بأية وسيلة ممكنة و في اوقات متقاربة كلّما امكن، فتعددت زياراتنا الى اقاربنا في الحلّة اوقات العطل و بقاؤنا كعائلة هناك لأيّام في كل مرّة . .

و وجدت نفسي في الحلّة و كأنيّ في عالم آخر يختلف عن الأعظمية و بغداد من جوانب متعددة و خاصة قوة العلاقات و الاواصر العائلية الكثيرة التداخل و قوة الصداقات العائلية و انفتاح العوائل بعضها على بعض، عززها الميل بقوة نحو الديمقراطية و النضال ضد الإقطاع و ضد انواع عصاباته التي صار افرادها يخافون من ارتياد الاماكن العامة في مدينة الحلة، حذراً من عناصر اليسار . .

و في الحلّة، كنّا نذهب الى السينما الصيفي في الصوب الصغير (الضفة الاصغر)، الذي كان يضمّ احياءً حديثة و خاصة لموظفي الدولة و كان احدث احيائه (حي بابل) الذي كانت تسكنه ابنة خالة والدي و زوجها الضابط آمر حامية الحلّة و عائلتهما . . و قبل الوصول الى ذلك الحي بعد عبور الجسر و نحو اليسار و على طريق مزفّت كنا نصل الى السينما الصيفي التي كانت تعرض افلاماً عربية مصرية ، اتذكّر منها افلام فريد شوقي و الممثلة كوكا و الراقصة سامية جمال في افلام (تمر حنّة) و (رصيف نمرة 5) و غيرها و على انغام و اغاني محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش و الى درجة اقل لا اعرف لماذا، اغاني العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ . .

و كان ذلك الطريق يمتد بموازاة شط الحلة مارّاً بين انواع البساتين و الأحراش، التي كان الناس يحذّرون من الذهاب اليها لإحتمال ان يصادف المرء قطعان من الجاموس التي كان يقودها رعيانها الى الشط في اماكن متّفق عليها . . و لا انسى ذات يوم حين دفعني فضولي لرؤية البساتين فذهبت وحدي، و كان ان صادفت قطيعاً هائجاً من الجاموس الهائل الحجم و لم اعرف ماذا افعل و حاولت الركض نحو بستان مجاور، و صاح عليّ راعيهم ان اثبت في مكاني و ان لا اركض لأن الركض يجعلهم يركضون خلفك كما قال و لا انسى صيحاته: (اجمد مكانك !! اجمد مكانك !! )، (لا تركض تره يحطّموك !!) و هكذا جمدت و كان الجاموس يمرّ حولي راكضاً غير آبه بوجودي . . و بعد انتهاء تلك العاصفة رأيت محمود ابن مزهر الذي كان يبحث عنيّ بقلق قائلاً:

ـ عزيزي وين رايح . . خوّفتنا عليك. ارجوك لاتتركنا و تذهب وحدك، هنا توجد انواع المخاطر. هاي الحلة مو بغداد!

و فيما كان النساء يجلسن معاً، كنّا نحن الصبيان امّا مع الرجال و امّا معاً او نكون بزيارات عدد من الشيّاب الذين كانوا من جيل جدتي امينة، لينطلقوا بالحديث عن مغامراتهم في شبابهم، و في مجلس الجدّ (سعوّدي) الذي كان يحدّثنا عن الحرب العالمية الأولى و كيف سيقوا من منازلهم بالسياط الى الحرب، و كيف البسوهم ملابس الجنود و كان عليهم الذهاب مشياً على الأقدام بجزم شبه ممزقة الى البحر (كان يقصد بحيرة وان)، لمحاربة (جيش المسقوف الصليبيين) . .

و في احدى رواياته، انهم عانوا من انتشار امراض قاتلة بين الجنود مثل (ابو زوعه ـ الكوليرا) و الطاعون و غيرها، بسبب الجوع و المشي المهلك و تحت سياط آمر المجموعة العثماني الذي تفاهمنا معه (على حد قوله) مقابل ليرات ذهبية بان يتركنا في بيوت القرى التي نمر بها و نعود للتجمع معاً و نواصل السير . .

و قال، كنّا نجد في القرى الطعام رغم انواع المجاعات، و نجد النساء الوحدانيات اللواتي سيق رجالهن الى الحرب مثلنا او هربوا منها و بقين وحيدات يعانين الوحدة كمعاناتنا . . و احنا كنّا مثل هرورة شباط (جمع هرّ) ما نايمين مع امرأة لشهور، و ذلك ماخفف من معاناتنا و من بعدنا عن دفئ المنزل و العائلة.

 

سألته عن معنى (هرّ شباط)، و يعني ليش النوم مع امرأة يخفف من المعاناة، بعدين هاي شلون امرأة تقبل غريب في فراشها و هل هي سنيّة او شيعيّة او مسيحية او يزيدية او شنو ؟؟ قال لي اسأل ليلى، و قال: ابني البشر . . بشر، المهم ان لا يحصل اعتداء و تجاوز، لازم تفهم!! و لازم تفهم احنا لم نعتدي على احد، بالعكس زوّدونا بعدئذ بطعام جيد للطريق، لم نكن نفكّر بأنهن مسلمات او غير مسلمات و لا عربيات او غير عربيّات. .

و طبعاً مثل (هرورة شباط) صارت محاولات اعتداء و استجبنا لصيحات النساء من معتدين و تطورت الى ضرب بالايدي و بوكسات و الى قتل و مقتول و المهم حمينا النساء من تلك المحاولات الوحشية. . و لا تنسى ان المجرمين هم من يشعلون الحروب و يحطّمون البشر و العواطف و القرى و يسوقون الجميع الى محارق من اجل ارباحهم و كنوز الذهب!!         

كانت ليلى ابنة اخيه معلمة شابة و تتهيأ لدراسة تخصص (تربية و علم نفس) في الجامعة، و كانت اكثر ابناء جيلها من الاخوان و ابناء و بنات عمها اهتماماً بالجد سعوّدي، حيث كان الجدّان الاخوان و عائلتاهما يسكنان في بيت كبير واحد في محلة القاسم. .

بعد احاديث الجد سعوّدي، ذهبتُ الى غرفة ليلى و كان بابها مواربا، فدفعت الباب بهدوء للدخول و تفاجأتُ بأن وجدتها تغيّر ملابسها فوقفت في مكاني و تراجعت و اغلقت الباب الذي احدث ضجة عند اغلاقه و سمعتها تقول :

ـ ها ؟؟ خُفِتْ هههههههه . . لاتخاف عزيزي تعال اذا محتاج شي!

ـ ييييـ يعني . . . اردت الاستفسار منك. . عن معنى (هرّ شباط) اللي حدّثنا عنه الجد سعوّدي.

ـ هههههههه هاي شديسولف الكم عميّ سعوّدي؟؟

ـ عن الحرب العالمية الأولى. . و كانوا ينامون ويّا نسوان القرى مثل (هرورة شباط) . .

ـ كافي كافي . . افتهمت. عزيزي القطط كبقية الحيوانات في وقت التناسل و التكاثر و خاصة في الربيع تلتقي و تتناسل و القطط لديها موسمان مرّة في نهاية الشتاء في شباط و مرّة في نهاية الصيف . . لذلك الناس تسمع مواءها و خاصة الذكور الهائجة جنسياً و هي تنادي على الانثى بمواء عال و بنغم خاص عال و الانثى تجيب، و تسمع صراعاتها للحصول على الانثى، و هذا الذكر يسموّه عدنا بالجلفي (هرّ شباط). شنو انت ماشايف تناسل القطط و تناسل الكلاب في الشوارع في تلك المواسم؟؟ ما سامع المواء المرتفع للهرورة في تلك المواسم ؟؟

ـ بلي شايفهم واحد يركب على الآخر بس ما اعرف ليش . . عبالي يلعبون. بس يعني الجد سعوّدي و ربعه كانوا ينامون مع النسوان مثل القطط ايام التكاثر؟؟؟

ـ هههههههههههههه يعني البشر شلون يسوون اطفال؟؟ عزيزي لازم تفتهم انت راح تصير رجّال و عيب عليك ماتعرف، يعني انت من الآن هاي علاماتك . . ليش انهزمت لمّا شفتني استبدل ملابسي؟؟

ـ غير فكّرت انه عيب. . ؟

ـ نعم و ليش عيب؟؟ يعني ليش ما تنهزم انت من تشوف رجّال يستبدل ملابسه ؟؟

ـ لأن همّه النساء يستحون. . و ما افكّر آذيهن.

ـ عزيزي اذا مايعلّموكم بالمدرسة، اسأل والدك انه (احنا شلون جينا للدنيا ؟)

ـ والدي نوبة يكول جدتي اهدته ايّانا و جدّتي تقول هذا رزق من رب العالمين و الحمد الله على الصحة و تمام الخلقة بس ماتقول كيف و اين. . و نوبة والدي يكول جبناكم من ابو احسن فاكهة. . و كلما نريد نفتهم ذلك من الأفلام المصرية، يغلق التلفزيون و يبصق على الشاشة و هو يصيح (ها هم رجعنا ؟؟ تتكوّزني (تتزوّجني) و راح يتكوّزها و (خذني بعاري) تفو على هالبرامج . . بابا روحوا ناموا).

ـ هههههههههه و الله حقّه . . صدك برامج تافهة في كثير من الأحيان. اسأل الوالد بكل جد او اسأل معلمكم مرشد الصف و انت طالب مجتهد، سيجيبك. .

كنت استفقد منذر الابن الصغير للجد كريّم الذي لم اره رغم استفساري الدائم عنه، منذر الذي كان اكبر مننا و كان يهتم بنا نحن الصبيان و يجيبنا على تساؤلاتنا بكل صراحة و وضوح و كان محبوباً من الجميع لبأسه و ميله للمسالمة و لإهتمامه بالعائلة و حنينه على افرادها . . . في احد الايام اخبرني محمود ابن الخال مزهر، باننا نستطيع رؤية منذر الذي كان يعيش متخفياً آنذاك لأنه (جندي فرار الآن) و قد فرّ من الجيش بسبب اشتعال الحرب في الشمال ضد الكرد بعد ان قُتل اخوه الجندي في احدى المعارك هناك. .

ذهبنا الى الموعد لرؤية منذر في شارع الجمهورية (الشارع الجديد) عند سينما هناك. . انتظرنا في باب السينما و كانت اعداد المتجمعين هناك في تزايد و كان غالبيتهم من الشباب، و لم افهم لماذا ذلك التجمع المتزايد هناك الى ان رفعوا لافتة حمراء كبيرة مكتوب عليها (السلم في كردستان ـ الحزب الشيوعي العراقي / محلية الحلّة) و كانت مقدمة لتظاهرة سارت و ملئت الشارع هناك و سارت بحماس كبير و سرنا معهم و انضمت اليها اعداد من النساء و من الكهول. . الى ان هاجمتنا قوة من رجال الشرطة بعصيّهم و من رجال الأمن الشاهرين مسدساتهم، و اشتبك المتظاهرون معهم بالحجارة و هم يسبوّهم. . و قد اعتقلوا عدداً منهم :

ـ كلاب. . نفس شرطة و امن نوري السعيد!!

ـ نفس الوجوه القذرة!

ـ على صخرة الاتحاد العربي الكردي تتحطّم مؤامرات الاستعمار و الرجعية!! 

كان منذر شاباً اسمراً محبوباً من اهل المحلة و المحلات المجاورة لأنه كان يحب مساعدة الجميع ان احتاجوا لمساعدة و صار محبوباً اكثر من النساء اثر حبه لإبنة عمه الجميلة (بسمة) التي كانت تبادله نفس المشاعر، و كانت بيوت المحلة مفتوحة للقاءاتهما الطيبة المحترمة لترتيب امور مستقبلهما، خاصة و انه كان يعدّ للزواج منها بعد ان يكتمل ما يجمعه من مال لتغطية نفقات العرس و بيت الزوجية، حتى جاء امر سوقه للجيش الذي كان يعني اضافة الى الاشتراك بالقوة في الحرب ضد الكرد و هم اخواننا و اصدق اصدقائنا المجرّبين بدون سبب واضح، كما كان يردد، اضافة الى انه كان يعني ان زواجه سيتأخّر بعد انقطاع اجوره من عمله في مطعم و عمله في علوة المخضّر . .  

. . . .

. . . .

عدنا الى بغداد في مطلع ذلك الصيف، و كانت العاصمة ملتهبة بمظاهرات " السلم في كردستان" التي كان ينظّمها الحزب الشيوعي العراقي اساساً و كان لولب التجمعات الجماهيرية المطالبة بالسلم، و قد امتلأت حيطان الشوارع الرئيسية بشعارات: السلام، الحكم الذاتي لكردستان العراق، تسقط عصابات الجاش و الجتة في كردستان . . و ذهبنا الى بيتنا بعد ان فارقنا الوالد، و فرحنا كثيراً بسلامة قطّتنا التي نسيناها في البيت الذي قفلنا ابوابه و شبابيكه، و نسينا ان نترك لها حريّتها بالخروج لشرب الماء و اكل ما كان يتوفّر، طيلة ايّام السفر. .

بعودتنا شاهدنا مجئ جيران جدد نزلوا في مشتمل بغرفتين اكملت بنائه ام سناء من اموال ابنتها شكرية التي جمعتها من معاميلها (!!). . كان الجيران الجدد من اربيل و تكوّنت عائلتهم من أب كردي ارمل توفيت زوجته بالكوليرا بعد ان تركت له صبياً (جودت) و صبيتان (بارزة و باكيزة)، و زوجته التركمانية الشابة (ام رضوان). . وقد زارنا الأب طالباً منّا العناية بعائلته عند غيابه عن البيت بسبب عمله كسائق شاحنة على خط اربيل ـ بغداد، بعد ان علم بأن الوالدة هي بنت الشيخ فخري. .

و فعلاً بذلنا جهدنا في محاولة ابعاد الصبيتين عن ام سناء و مكائدها، التي كانت تكلّفهما بخدمتها بشراء حاجات من السوق لاسباب كانت تفتعلها من مرض و عجز و و. . فكنّا انا و محمود نقوم بها و نعطيها للصبيتين لتسليمها الى ام سناء مع محاولاتنا لتشجيع الصبيتين على رفض طلبات ام سناء بالتدريج. . و تطورت صداقة طفولية علقت بالذاكرة بيني و بين باكيزة الجميلة بغمّازات خدودها التي كانت تتوضّح بابتسامتها. .

صداقة حفّزت عندي روح حماية باكيزة من ام سناء العقرب، الامر الذي طوّر صداقتنا اكثر فكانت تحدّثني عن امور كثيرة عنهم. . من وفاة والدتها في البيت الذي كان في محلة العرب قرب خانقاه في مدينة اربيل، الى زواج ابيها من الشابة التركمانية لتهتم باولاده، و كيف كان هناك معارضون لذلك الزواج من اهل الشابة التركمانية و كيف هددوا بقتلها و باشروا بالإعداد لذلك، و كيف نقلهم والدها مع اهم اغراضهم في ليلة ظلماء من اربيل الى بغداد، بعد ان وجد صديقه ذلك المشتمل لهم في بغداد. .       

و في ذات يوم اخبرتني باكيزة، بأن ام سناء قالت ان مصلحة المياه ستقوم بتجديد شبكة الماء في المحلة، و ان البوري الرئيسي و عقدته يقعان في باب بيتكم و عند الشبابيك كما قالت، و لذلك جرى تعليم الموقع بالبوية الحمراء على حائطكم و على الباب بعلامات ضرب (اكس). . و انهم سيبدأون العمل احتمال بعد اسبوع!!

في ذلك اليوم او فيما تلاه زارنا محمد ابن الخالة فائقة في ساعة متأخرة من الليل و كان متلثماً بـ غترة (كوفيّة) و قال لوالدتي:

ـ خالة سعاد. . عليكم ان تنتقلوا من البيت.. سمعت انهم سيعتدون عليكم بس الله يعرف كيف!!

ـ ليش عيني محمد؟؟ ابو مفيد تارك البيت و انت تعرف، و الأمور تسير بهدوء. .

ـ خالة الله يخليّج و اكيد ابو مفيد يعرف، صارت الأمور غير شكل مو مثل قبل. . صارت محلاّت مقفولة للقوميين و البعثيين و عوائلهم و محلات مقفولة لليساريين، و ذولة عدنا هم البادئين و ماشين بيها بالقوة!!

ـ بس محمد احنا عائلة الشيخ فخري من ابرز من اسسوا محلة الشيوخ في الاعظمية!

ـ خالة سعاد ذولة مايعترفون لا بشيخ و لا باستاذ و لا و لا . . المهم يكونون بس قوميين و بعثيين في الأعظمية. .

ـ شلون يعني؟؟ غير الكل عراقيين و كل واحد عنده الرأي اللي يشتهد بيه و المهم ان لايعتدي و لا يقوم بما حرّم الله ؟؟ بعدين لوين نروح ؟ هاي محلّتنا و هذا بيتنا و بنيناه بطلعان الروح . . زين منين نجيب فلوس للإيجارات؟؟

ـ آني المهم خبّرتكم و ابو مفيد يثق بكلامي، و اعرف انه للاسف تارك البيت حتى يجنّبكم المشاكل. . تره ماكو حل آخر. .

لم تستطع الوالدة ادراك مخاطر كلام محمد و كان من الثابت لديها انها ابنة تلك المحلة الاصلية و لا يمكن لأحد ان يقتلعها منها، خاصة انها ابنة الشيخ المعروف ببركاته و مساعدته للمحتاجين و للعوائل الفقيرة التي بجهوده و مساعدته استطاع ايصال ابنائها الى وظائف و مهن. . 

و في تلك الأيام صادفتُ باكيزة و كانت تبكي بحرقة و خوف، و بعد سؤالي عن السبب لم تجب، و بعد تكرار تساؤلاتي و الحاحي عليها قالت:

ـ كنت اقرأ بالطارمة و صاحت عليّ ام سناء لأن اساعدها و انها تحتاج بيض و انها مريضة لاتستطيع الذهاب الى السوق. . قطعت قرائتي و اخذت منها النقود لشراء البيض، و بعد عودتي قالت لي بأن ادخل عندهم لأشرب شربت فرنجي لذيذ ارسلوه لهم من اوروبا، فذهبت و كانت هناك ابنتها شكرية و (ابن خالتها مفوض الأمن) و سألتني:

ـ انتي هواية تقرأين. . انتي بأي صف و شنو تريدين تصيرين؟؟

ـ آني بصف السادس ابتدائي و هالسنة عندي امتحان بكالوريا. .

ـ زين و شنو تريدين تصيرين؟؟

ـ معلمة!

ـ كل هالدراسة و كل هالتعب تريدين تصيرين معلمة؟؟ انتي شنو غبية ؟؟ ولج انتي بجمالج تقدرين تصيرين مليونيرة. . انتي الرجّال يدك بيج يومية عشر مرّات و مايشبع!! مخبلة. . عاقلة؟ و لج المعلمة ماتقدر تجني اكثر من عشرين دينار بالشهر. . تعالي يومية عندي و اجهّزج بانواع العطور و الكريمات التي تخليّ اقوى رجّال يذوب عند ريحة بس من ههههههههههه.

و قالت باكيزة بأنها شعرت بالخوف من ذلك الكلام و هربت من بيت ام سناء و هي تبكي من شدة الخوف و الألم لأنها كانت تسمع احياناً مثل تلك الاقوال من سرسرية بالشارع في اربيل ايضاً . . و اجتمعنا: مفيد و محمود و جودت اخو باكيزة و انا و تناقشنا بالمشكلة و اتفقنا بأن لانترك اية من اخواتنا تسير لوحدها في الشارع دون وجودنا معها او خلفها . . و ذلك ماجرى.

استيقظنا صباح ذات يوم و فتحنا باب البيت الخشبية و صادفنا رائحة نفط قويّة عندها و رأينا بابنا و هي مشبّعة بالنفط، اضافة الى النفط الذي شبّع قير الشارع امامها، و رأينا شبابيك غرفنا الخشبية المطلّة على الشارع قد طُليت بطبقة كثيفة من نفط اسود سال الى قير الشارع. . و لم نستطع بغياب الوالد تفسير ذلك بكل غشم (غشمنة) و تصوّرنا انه تنظيف من امانة العاصمة للوقاية من دودة الإرضة (الإرضة هي الدودة التي تعتاش على الخشب و تنخره) التي كانت منتشرة في نواحينا. .

في بعد منتصف ليلة الصيف ذلك و كنا نائمين في السطح.. استيقظت و انا في الفراش على رائحة دخّان كثيف جعلني اسعل ببلغم مسوّد، و اذ ادرت وجهي.. رأيت نيراناً هائلة كانت تجتاز و اعلى من السطح!! فاسرعت بايقاظ الجميع و اسرعنا الى الطابق الارضي و كانت النار تنبعث بقوة الى داخل البيت و تقطع الطريق للخروج من الباب الرئيسية الاّ بمخاطرة لا تُعرف نتائجها. .

و فيما حاولت الخروج وسط النيران لفتح الطريق لوالدتي و البنات اللواتي كنّ محيطات بي. . للخروج من البيت، اسرع مفيد لتضبيط انبوب السقي (الصوندة) على حنفية الحديقة الصغيرة الخلفية و اخذ يرشّ الماء على النيران، و حمل محمود السطل ليملأه بالماء و يرش الماء على النار.. 

بعد ان استطعت اخراج أميّ و البنات بأن يكونوا خلفي في مواجهة النيران و للتخلص من الدخان الكثيف الذي ملأ البيت و الطارمة الخلفية الصغيرة.. خرجنا الى الشارع! كان الشارع مكتظاً بالناس و بانواع الصيحات الداعية للانقاذ و قد امتلأ باغلب الجيران سواء كانوا معروفين او غير معروفين لنا، رجالاً و نساءً و هم يحاولون اطفاء النيران بكل الوسائل المتوفرة لديهم، من جرادل مليئة بالماء الى صوندات تحمل الماء، و الى خرطوم كبير للماء حمله القهوجي محمد راغب الكاولي من المقهى المجاور. .

اضافة الى صبيان و اولاد كبار لم اعرفهم. . كانوا يحملون التراب بقطع اكياس الجنفاص من الخرابة القريبة و يرموه على النيران، و خرجت الشابة التركمانية (ام رضوان) و جودت و بارزة بجرادل الماء و ربطوا صوندة لنقل الماء الى قرب بابنا و باشروا برشّ الماء على النيران..

و في تلك الحالة المأساوية المخيفة، التي حمدنا الله فيها ان جميعنا كنا سالمين و لكننا لم نعرف بعد ماذا التهمت النيران من اغراضنا و حاجاتنا و الأثاث. . كانت ام سناء تصيح:

ـ يسقط عملاء موسكو. . !!

و كان الجار الحاج فاضل السامرائي يصيح عليها:

ـ انجبيّ ولج ام سناء انتي مو مال احترام. . ولج المحلّة دا تحترق. . الله يستر اذا اشتعل الكهرباء!!

ـ الموت لعملاء موسكو!!

ـ طبيّ لبيتكم ولج و حق هذا الله اشبعج ضرب اذا بقيتي بهالخريط. . ماعندج دين ماعندج عقل. . ولج هذول عائلة و بس الاطفال و امهم بالبيت..

و كانت اصوات الناس و همساتهم و صيحاتهم تدور و تتعالى، سمعت منها:

ـ لم يأت الإطفاء الحكومي. . خابرتهم عدة مرات و يطلع تلفونهم بس مشغول!

ـ هذول يجوز متواطئين و ايّاهم!

و كانت الوالدة تصيح:

ـ برهوم، محمد ، منوّر . . الحقوا!!  بيتنا يحترق!!

و لكن لا استجابة لإستغاثاتها منهم، و قالت جدة امينة التي قدمت مسرعة من بيتها و لم نعرف من أخبرها في منتصف تلك الليلة، قالت:

ـ عيني سعاد. . برهوم عنده خفارة اليوم بالمطبعة، محمد بعد مارجع من سفرية الشام. . اروح الى بيت شعيب ابراهيم (بيت شعوّبي ابو البيض)، بالتأكيد شبابهم راح يساعدون!

و لم تنتبه ان شبابهم كانوا اول من جاءوا لإطفاء النيران. .

و هكذا. . كان هذا اول حرق لبيت على اهله لأسباب سياسية في الأعظمية . . .

 

   الساطور !

                                                                                            

بقي اهالي المحلة ساهرين لما تبقىّ من الظلام، و كان بعضهم رائحاً غاديّاً قلقاً من ان ينشب حريق آخر في بيت آخر لأن اغلبهم لم يعرفوا اسباب الحريق، و لأنهم كانوا يعرفوننا و يحبوّنا و كانوا واثقين من اننا لم نسئ لأحد و ليس لدينا عداوات، بل كانوا يثقون بوالدتي و عارفين من تكون و يؤمنون لديها مصوغاتهم الذهبية و المتنوعة و حليهم و حوائجهم الثمينة، في حالات الارتهان. .

مع طلوع الفجر جاءت الخالة فائقة تنبأنا بأن ابنها محمد وصل من سفره بسياقته لباص النيرن الكبير، قادماً من الشام. . في زمن كانت الناس فيه تخاف على احبائها من ذلك السفر الشاق لسوء الطريق الذي شهد حوادث مميتة للسائقين و الراكبين، و بسبب كثرة عصابات السلاّبة سواءً كانوا من اهل المدن او من البدو بجِمالهم . .

بعد دقائق رأيت محمد ابن الخالة فائقة و هو قادماً بملابس العمل المبقّعة ببقع الزيت المعفّر بأتربة طريق بغداد ـ الشام.. و كان الشرر يتطاير من عينيه. لم ينتبه لي و لا الى بيتنا المحروق الباب و الشبابيك و الذي اسودّت حيطانه، بل ذهب رأساً الى بيت ام سناء و طرق الباب الذي لم يفتحه احد، فرمى بكل ثقله عليه لعدة مرّات و هو الطويل العريض البارز العضلات من تدريبات الملاكمة و رفع الاثقال، حتى خلع الباب و سمعتُ صياح ام سناء و هي تطل برأسها عبر الباب المخلوع:

ـ ويلك. . هاي شكو؟؟ شنو السالفة؟؟

و صاحت بعلو صوتها:

ـ و الله اخبّر عليكم المديرية!!

اجابها محمد بصوت متعال:

ـ يلله خبّري المديرية إذا بيج خير!! اريد اشوف ابن اختك السفيه الطايح الحظ . . مو ينام عدكم؟؟ يمكن ينام بين شكرية و بين زوجها ابو بولة لأن واحد يثق بالآخر و شلون دجاجة و شلون ديج . . و صاح فيها:

ـ الأحسن آني اروح اليه..

و دفع ام سناء الشاحبة من المفاجأة دفعة قوية الى جنب، سقطت اثرها على الارض.. و تسلل الى داخل البيت و هو يصيح:

ـ وينك لطيف؟؟ خُفِتْ يامفوض الأمن اللي قبلوك بعد ما شكّوا طيــــــــ.....

ـ وينك لطيف؟؟ نايم بحضن شكرية اللي بقيت لاصق بيها سنين و بالتالي بالت عليك؟؟

ـ ولج شكرية اتستّري!! صدرج و ... كلّه مبيّن.. اني ماجاي عليج، جاي على السفيه ابن خالتك . .

نظرتُ من شبّاك غرفة ام سناء و انا اتنصّت لما يدور، و لم اكن اعرف ان محمد بذلك الإقدام و بتلك الشجاعة التي اسكتت كل سكنة بيت ام سناء القرج التي اسرعت تعدّ الشاي و هي تتعوّذ من الشيطان و تبسمل و تتلو ما تعرف من كلمات آيات قرآنية. . نسيت حديث برهوم لأخيه محمد و نصيحته ايّاه بترك القاجاغ و تهريب الملاحقين و كيف اجاب برهوم:

ـ عزيزي برهوم. . بدون محصول القاجاع لا استطيع اعالة العائلة الكبيرة من الوالدة الى زوجاتي الاثنتين و اولادهما. .

و بقيت افكّر.. هل من يقوم بالقاجاغ و التهريب تكون لديه هذه القوة و تهابه الناس؟؟ هل تهابه من جرأته ام من حاجتها اليه؟؟ و لماذا كلّ تلك السريّة بتلك الاعمال؟؟

سمعت صياح محمد و هو يحدّث لطيف قابضاً على ياخة قميص نومه:

ـ ويلك ما خبّرك الملازم ان تتركوا بيت ست سعاد الآن، لأني انا المكلّف به الآن؟؟. . الم يخبرك انها خالتي؟؟ ويلك . . خالتي!!

ـ هــــــــا؟؟ نعم !! بس اجانا امر سريع من فوق!!

ـ منين؟؟ ابن القندرة منين جاءكم؟؟

ـ من الساطور!!                

ـ و انت تستلم اوامر من الساطور لو من الملازم يامفوّض الامن؟؟

ـ استلم الاوامر من اللي يصرف لي راتب. .

ـ على هالكلام اقدر ارفع دعوة عليك و يرموك بالسجن او يطردوك من وظيفتك. .

ـ نعم تقدر. . لكن ارجو ان تصدّق ان الملازم و آمره انفسهم يخافون من الساطور. . و شفنا هذا بعيوننا و عايشناه!!

بعد صمت. . ترك محمد ياخته و افلته و توجّه للخروج هو يشتاط غضباً و كان غارقاً بالتفكير، حتى انه لم يتوقف حتى لا إرادياً لرؤية شكرية التي ظهرت من باب غرفة زواجها اثر الصمت الذي حصل، و كانت نصف عارية و تبتسم له، فيما كانت ام سناء تركض ورائه صائحة:

ـ استريح ابو المعتز الشاي حضّرناه لك بهالفجر..

نظر محمد اليها نظرة اشمئزاز و حقد قائلاً:

ـ لازم اروح الآن!!

. . . . .

. . . . .

وقف محمد امام بيتنا المحترق و هو يتأمّله بصمت مردداً مع نفسه: للأسف هكذا صار حال ابنة الشيخ الكبير فخري الآن . . اولاد الكلاب، حتى لم تفد معهم طيبة ست سعاد و مساعداتها لهم و لأبنائهم، هل يريدون قتلها مع ابنائها؟؟ ام هي محاولة لايقاع خسائر لاتُعرف حدودها بها و بعائلتها . . و اقترب من باب البيت الخشبية التي كنا انا و مفيد و محمود نحاول تنظيفها من آثار الحروق النافذة، كي نتمكن من اغلاقها و فتحها، و بالتالي من قفلها علينا ليلاً حذراً من اي معتدي يدخل بسهولة عبر باب لا يمكن سدّها او قفلها. .

سألنا محمد:

ـ هل الوالدة يقضانه و هل استطيع رؤيتها؟؟

ـ نعم يقضانة و هي لم تنم!! جدّتي معها. .

ـ المسكينة. . الله يساعدها!! ولدي خبّروها، اذا تكدر تشوف محمد ابن اختها يريد يتحدث معها . .

طفرت دمعة من عينه و هو يشاهد ان نصف اثاث غرفة الضيوف محترق و رائحة الحرق تملأ المكان . . . قبّل يد الوالدة و سلّم على جدّة امينة و هو يردد:

ـ الف الحمد الله ع السلامة. . للاسف لم اكن جنبكم حتى ادافع عنكم و اساعدكم. . و الله الآن وصلت من الشام و معذرة على مظهري غير المناسب. . و الله خالتي بذلت جهدي و ايّا هالمجرمين قدر ما استطعت، و للاسف يبيّن لازم تنتقلون، كما عرفت و تأكّدت قبل ايام و اخبرتك. . سأعمل جهدي من جديد و اعطيك خبر. .

كانت الوالدة مطرقة تبكي بصمت، و هي تهزّ رأسها له بموافقتها على كلامه، فيما قالت جدة امينة:

ـ روح عزيزي حاول، و ما التوفيق الاّ من عند الله !

و مع تلاوة و تجويد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من مذياع مقهى محمد راغب . . اخذ الزوّار يتقاطرون على البيت. . قائمين بالواجب و عارضين شتى الخدمات لنتائج ما تخرّب في بيت الإبنة الكبرى الاثيرة للشيخ الجليل فخري.. و ذهب محمد شاقّاً انواع الطرق للوصول الى احد ناشطي العالم السفلي المارّ الذكر. . الى ان التقاه في مقهى قذر في الدرابين القديمة لـ (العوينة) احدى محلات (الخلاّني)، و بعد تقديمه هديته الثمينة و بعد أحاديث متنوعة سأله:

ـ من هو الساطور؟؟

ـ اووهووو. . هذا يخوّفْ، عندك مشكلة وايّاه؟؟

ـ لا و الله. . حبيّت اسأله معروف و كم يكلّف آني حاضر!!

ـ عزيزي محمد، اولاً اشكرك على كيس التبغ الغالي اللي اهديته لي . . هذا الساطور قاتل محترف و عليه دعوات و دعوات، و يقال و العهدة على الراوي انه احد قتلة ابو الهوب، رِجْل بالحكومة و الشرطة و رِجْل بحزب البعث. . و يقال انه اغتصب اخت زوجته و اغتصب بنت الجيران و هدد ابوها بالقتل ان اشتكى، واحد لاذمة و لاضمير عنده. . عوفك من سالفته أحسن اليك.

ـ عزيزي حرقوا بيت خالتي اخت اميّ . .

ـ احّد مات؟؟

ـ لا. . بس افتهمت ان الساطور هو اللي ناطي الامر.

ـ عوفك من هالسالفة لعد. . لأن ماراح يتغيّر شئ مهما تدفع من تكاليف. . الساطور ينفذ اوامر لو وزير الداخلية لو مدير الأمن العام. . أخبر خالتك ان تنتقل من المحلة، هذا الحريق تره بس انذار بموديل هذا الوقت، و الاّ يقتلوها او يقتلون زوجها او واحد من الولد!! عزيزي محمد خليّ على حائط البيت قطعة (معروض للايجار) . . معناها استلمت الرسالة و ستنتقل حالما تحصّل على مكان!!

ـ . . . .

ذهب محمد الى المطبعة ليخبر اخاه برهوم ماحصل و الذي كان لم يعرف بعد بحريق البيت، و حدّثه بما جرى و قصة الساطور التي اذهلت برهوم الذي قال انه سيذهب فوراً الى الخالة سعاد، و ما يستطيع فعله لها خاصة و انها لوحدها مع الابناء. . وصل برهوم الى بيتنا بتاكسي على وجه السرعة و قال للوالدة و هو شديد التأثّر:

ـ خالتي. . الموضوع جديّ و خطير! هذوله قتلة و عندهم قتل بني آدم كقتل نملة. لازم تنتقلون الى مكان آخر خارج الأعظمية باسرع وقت، و الاّ فإن المطاردات و التهديدات و الافعال الاجرامية ضدكم لن تنتهي، و لا تستطيع لا الشرطة و لا الحكومة منعهم، لأن رجالها يخافون منهم. .

آني و زوجتي غنية و المساعدين المعتمد عليهم عندكم دائماً، و هذا رقم تلفون المطبعة عند الضرورة، لأني بين البيت و المطبعة فقط و ان حصل اي تغيير ساخبرك، اكيد ابو مفيد لايعرف ماحصل. . سأتّصل به حالاً و نشوف اين تذهبون مؤقتاً الى ان تستقروّا. بعدين خالة لا تزعلين انت بقيتي مصرّة على عدم الانتقال رغم محاولات ابو مفيد و محاولات محمد لإقناعكِ بالانتقال من قبل اشهر، الى ان اخبرك محمد بأن لاحلّ آخر قبل ايام، صدّقي بأن جهودنا لم تفيد. . هسّه حضّري ملابسكم و اهم الحاجات في حقائب، للانتقال المؤقت السريع و سيبقى مساعديّ في البيت لحماية البيت و ما تبقىّ من الاغراض..

و فيما بقيت الوالدة صامتة حزينة و هي تفكّر بأنها ستترك بيتها الذي بنته بكل جهودها و عواطفها و ستترك اهلها و محلّتها.. خرج برهوم حزيناً على حال خالته التي اعتبرها هي المثال للأم و الأخت و صديقة المحن، و كيف جعلته الأقدار لا حول و لاقوة له لمساعدتها و اقسم بأنه لابد ان يجد ردّاً على مايحصل او يجد وسيلة لإعلان ما يحصل. .

و بعد اتصاله بالوالد و ترتيب امراً معه، بقي تلك الليلة يعاني الأرق و الافكار تتصارع في ذهنه الى ان توصّل بأن يكتب شيئاً يروي فيه ما كان يحصل و ينشره، و انغمر في كتابة مقال الى صحيفة (المبدأ) التي كانت تقوم بدور صحيفة اليسار بعد اغلاق صحف : اتحاد الشعب، الشبيبة، 14 تموز، صوت الاحرار . . . و غيرها التي كانت تتبادل الدور كلّما أُغلقت احداها بتهم التحريض ضد (حكومة الثورة) او باتهامات بانواع التهم الهدّامة، و كأنه عودة لدور السلطات السعيدية في خنق حرية الصحافة اليسارية، في حين كانت الصحف القومية و البعثية و الاسلاموية لا سلطة عليها !! 

فنشرت صحيفة (المبدأ) اليسارية مقال برهوم في صفحتها الاولى و بإسم مستعار للكاتب و الذي كان بإسم (مراقب)، و اثار المقال ضجة كبرى في الحياة اليومية و احدث هزّة و تساؤلات في الاوساط التقدمية في بغداد . . . و قد ورد فيه:

” اذا كانت اعمال التهجير في الأقطاعيات القروسطية القديمة تتم بحق رافضي سلطة (سيد العبيد)، الأقطاعي او (السلطة العشائرية الأبوية القائمة) او بحق رافضي تنفيذ اوامر السيد ورغباته، تلك الاعمال التي كانت تنفذها شلّة مسلّحي السيد، و التي مع تلك الروابط و درجات الوعي كانت ايضاً تلقى مقاومة من عدد من ابناء العشيرة ذاتها تضامناً مع الرافض.. لأسباب عائلية او دينية او عشائرية دعت للاخوّة و وصل الأرحام و الرأفة و الإحسان. .

فانها في المدن وخاصة في العاصمة بغداد التي تضم اناساً من مختلف القوميات والأعراق والعشائر والأديان. . وممن يحملون انواع المعارف و الأجتهادات والقناعات، فإن اعمال التهجير و الحرق والطرد من محلات بعينها، قد خبر اهالي بغداد مصادرها و اهداف التحريض عليها . . بكونها كانت في اكثر الأحيان تبدأ من عدد متنفذ في الحكومة، او من موظفين رسميين فيها، او ان تتم بشكل آخر شبه رسمي الاّ انه علني تقوم و تحرّض به صحف، و يتحدث و يحرّض به مختارو محلاّت و مفوضو شرطة. 

او ان تتم بشكل ليس علني. . ليس نقصاً في قوة او قدرة تلك الاوساط، وانما غالباً ماكانت تُشكّل بتكرارها و تراكمها، مقدمات لصناعة فتن و صناعة أحداث مكروهة كبرى من قبل رجال متنفذين في الحكومة ذاتها. . او من قبل ذوي نفوذ اجتماعي، مالي او اقتصادي او ديني و طائفي يخدم ارادة او يخدم وجهة غير معلنة بعد لقوى خارجية اقليمية او دولية كبرى، و لتنفيذ خططها.  . 

وهي وعلى تنوّعها و تتاليها.. لم تؤدّ يوماً مهما هللت و ادّعت، لم تؤدّ الى وضع حلول لمشاكل التآخي و التعايش معاً او لحسمها، وانما اتبعت كسياسة وكاسلوب عمل عنيف و متوحش لقوى نافذة تريد لتلك المشاكل البقاء و الديمومة او لزيادتها، بزيادة التوترات توتراً، لأن الجهة المحَرّضة عليها و البادئة بها اضافة الى الأضرار المباشرة التي تتسبب بها بحق المتضررين. . فانها ستخلق ردود افعال معاكسة ضد الفاعلين، ردود افعال قد تكون اشد بأساً و هولاً من قبل المتضررين بحق من ارتكبوا تلك الاعمال المنافية للاعراف و القيم الاجتماعية و للدين الصحيح..

وهي ان حُلّت و انتهت في اماكن اثارتها كما يتراءى للبعض، الاّ انها ستترك ندوباً وآلاماً في البلاد كلها، لن تمّحي بسهولة، و هو مايريده القائمين بها و يسعون الى ادامتها كوسيلة من وسائل التحريك والتحريض لبلوغ اهداف سوداء ارادوها لركوب نتائجها.. لتبقى احدى الوسائل الهامة لضبط سير البلاد في الأتجاه الذي شاركوا في رسمه و تحديده لها في مرحلة تأريخية سابقة يريدوها ان تستمرفي مسارح حياتها و حياة رجالها . . مقابل اموالٍ او حصص في ارباح."

بعد يومين و في ساعات الفجر الاولى توقفت سيارة مدنية سوداء و سيارتان مسلّحتان للانضباط العسكري في باب بيت برهوم في الدهدوينة و طرقوا الباب طرقات عنيفة ايقضت الجيران الذين تجمهروا خلف سياجات سطوحهم لرؤية مايدور خاصة و ان العسكريين كانوا يصيحون بأعلى اصواتهم:

ـ هذا بيت صحافي الرياضة برهوم؟؟

ـ انا برهوم. . ماذا تريدون؟؟

آمر المفرزة:

ـ انجب ولك . . تريدون تسوون انقلاب على القروسطية؟؟؟ و استدار على مساعده قائلاً بصوت خفيض : القروسطية هو كتب مو ؟؟ ـ نعم سيدي

ـ اي انقلاب و اي قروسطية عزيزي؟؟

ـ لاتسويّ نفسك ماتعرف او مخبول. . امشي و ايّانا هسه فوراً ببجامتك هاي. . و انتم ولد الخايبة فتّشوا البيت على سلاح او على جهاز او اي شئ غريب تشوفوه بالبيت!!

و بينما اصعدوا برهوم الى السيارة المدنية السوداء و اجلسوه مكبّلاً بين عسكريّين بلباس مدني في الحوض الخلفي للسيارة، خرج العسكريون بعدئذ من البيت بعد تفتيشه و هم يحملون ترانزستوراً (كانت الترانزستورات قليلة جداً و غير معروفة بعد في الحياة العامة آنذاك) و جهازاً موضوعاً على علبته الفارغة قائلين انهم وجدوا هذا الجهاز الذي يمكن ان يكون جهاز تجسسي على الاكثر، كما قالوا! و انهم لم يجدوا اسلحة سوى سكاكين المطبخ حملوا سكيّنتين طويلتين منها، و ان في البيت تلفون. . كانت رئيسة الممرضات غنية زوجة برهوم تصيح خلفهم و هي متأكدة من سلامة زوجها:

ـ يابه ديروا بالكم ع الجهاز رجاءً. . هذا جهاز تخطيط قلب غالي الثمن يعود لرئيس شعبة القلب في المستشفى الجمهوري د. الجوربجي كان قد ارسله معي لضبط بطاريته عند محل الكهربائيين بالنزيزة خلفنا. .

صاح آمر المفرزة:

ـ ضعوا الجهاز في علبته و احملوه بعناية، فعلاً يمكن جهاز تجسسي دقيق غالي الثمن . . و انت لكْ (متكلماً مع جندي كان يحمل سجل و كان جاهزاً للتسجيل) سجّلْ المبرزات الجرمية التي وجدت. . في الاستمارة!

و هكذا ساقوا برهوم مكبّلاً الى بناية (الحاكم العسكري العام) و اودعوه ببيجامته في غرفة بقضبان حديدية و حملوا مانقلوه من البيت الى غرفة اخرى، في وقت كان فيه الضابط الخفر و هو من ضباط العاب الجيش، مستمراً بواجبه و استلم ماكُتب بحق الموقوف (الخطير) كما وُصف في أمر اعتقاله و جاء لرؤيته. . و تفاجأ به قائلاً:

 ـ هاي شنو ؟؟ الموقوف الخطير برهوم؟؟ ايش جابك هنا ؟؟ هههههههههههههه

و بعد فرح برهوم بلقاء صديق طفولته عبوّد الذي استمرّ على صداقته في الملاعب و التحقيقات و التحليلات الرياضية، قال :

ـ جاءوا فجر اليوم و اعتقلوني و اللي سمعته من آمر المفرزة فقط اني (متّهم بالقيام بانقلاب على القروسطية) . .

ـ هههههههههههههههه

ـ ههههههههه

ـ يا اخي فوز فريق القوة الجويّة على الشرطة كان رائع و ما كتبته انت عنه كان اروع.. برهوم عزيزي لاتدير بال (تحصل باحسن العائلات) على كولة الافلام المصرية.. يا اخي آني ماشايف اثول مثل ثولان آمر المفرزة هذا اللي التقيت به بالخفارة.. احسن شئ تعال نشرب شاي بغرفتي و انت غسّل و رتّب نفسك و عندي بدلة مدنية احتياط بالدولاب متأكّد تجي على مقاسك..

بعد ان اغتسل برهوم و حلق ذقنه و تعطّر بعطر الضابط الخفر عبوّد و غيّر ملابسه، جلس لشرب الشاي و ابتدآ بالحديث و كانت الاغراض موضوعة على الطاولة. .

ـ صدك هذا اثول. . الادوات الجرمية: ترانزستور، سكاكين مطبخ. . و جهاز يمكن يكون تجسسي؟؟؟ ههههههههه بس صدك شنو هذا الجهاز؟؟

ـ جهاز تخطيط قلب كان بالتصليح و و . . .

ـ ههههههههههههه و الله حسب البرقيات المسجلة بحقّك انه، انت كاتب مقال تدعو فيه للثورة و الانتقام و ان مايجري حتى في القرون الوسطى (القروسطية) لم يجرِ..

ـ عزيزي عبود آني تألّمت على حال خالتي ابنة الشيخ فخري و و و

ـ الله يرحم الشيخ فخري لولا مساعدته المالية لوالدي، ما كان صرت ضابط. . الف رحمه و نور على روحه و اصدق تحياتي للست سعاد و اخبرها آني مستعد للمساعدة بأي شئ اقدر عليه. . عيني برهوم آني افتهمك بس اكو اجراءات لازم نعملها لأن هناك برقيات و اوامر رسمية و داخلة بالسجلات و جرى اعتقالك و ثُبّت ذلك رسمياً.. اخلّص خفارتي و انقلك معي بالسيارة العسكرية على مسؤوليتي الى بيتك يمكن الظهر لأن تكون الشوارع خالية بمحلّتكم، او تحب بالليل؟ حتى لا تكون هناك ضجة، و آني اكمّل كل الإجراءات الاصولية من كتابة تحقيق و تدقيق لماحمله هذا الاثول و انزله في السجل الرسمي، و الاغراض ترجع للبيت معاك، هي و الجهاز اللي يمكن ان يكون تجسسي ههههههههه. (يتبع)

 24 /4 / 2022

عرض مقالات: