الغناء والموسيقى تراثيا وأكاديميا ... عاطفيا وسياسيا

  لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل صديق عمري

وزميل الدراسة والمسيرة التي ابتدأناها معا منذ

ستين عاما تحديدا من العام ١٩٦٢،

الفنان المبدع جعفر حسن.

 أعيد نشر

مادة نشرتها في صحيفة (بغداد) الصادرة في

لندن، وباسم مستعار (علي السنوي)

 نشرت على عددين هما:

العدد ٥١١ في ١٤ آذار /مارس

 ٢٠٠٣

و العدد ٥١٢ في ٢١آذار /مارس

٢٠٠٣

  حاوره: علي رفيق

 (سينمائي ومسرحي عراقي)

 عندما كان الكبار يشنفون أسماع الآذان العراقية بالنغم الأصيل ، جاء جعفر حسن الى بغداد من خانقين البعيدة شابا غضا ، يغني بجرأة لناظم الغزالي ولعبد الوهاب والقبانجي وغيرهم ، كانت في صوته مساحات عريضة ، وأداء قوي صادح ، فاحتضنته العاصمة وقدمته  في أعلى المستويات ، ودخل غمار الوسط الفني ، تزكيه موهبته ، ولكنه لم يكتف بالقليل ولم يتوقف عند السهل ، وإنما ابتدأ في فرقة الموشحات ، حيث الأداء الصعب ، وراح يبحث في الموروث الشعبي ، فتقدم الى معهد الفنون الجميلة – قسم الموسيقى ، عازما على البدء بالعلم لصقل الموهبة ولكي يتتلمذ على الكبار ، وغذ السير على الطريق الصحيح  لا يعرف الوسطية وإنما كان يريد أن تكون له بصمة واضحة في المسيرة .فكانت البداية مع المقام العراقي الأصيل و إنهاك في فترة من أعقد فترات العراق ليؤسس لأغنية تنشد الحياة والتطور ، الأغنية السياسية ، فعمل على الكلمة والنغم والإيقاع وسعى لجمع هذه العناصر في بوتقة تتغنى بالعمل والتقدم والحياة ، فكما تكون الأغنية هتافا تكون بنفس الوقت دعوة للبناء والتغني بالإنسان في آن واحد.

مبدع هذه بداياته، لا غرو أن يواصل مسيرة اختطـها عن وعي فيركب مصاعب الحياة، وتتقاذفه أمواجها الى مرافيء شتى، لكنه كما بدأ، مازال يغني الأمل والحب، صوته يصل جبال كوردستان شمالا بشطآن عدن جنوبا.

أنه الفنان العراقي المعروف جعفر حسن .. وبعيدا عن المقدمات والإسهاب فيها، اختصرنا الطريق إليه، وكانت لنا معه جلسة دافئة تسودها المحبة يفوح منها عبق تاريخ، تألق جعفر فيه وعن أيام الإنجازات، وعن مشاريع الراهن والمستقبل، كان لنا هذا الحوار:

*خطواتك الأولى كانت راسخة على سلم الفن الموسيقي العراقي.. فالبدايات التي أعرفها عنك، إنك دخلت معهد الفنون الجميلة لتصقل موهبتك أكاديميا.. وفي المعهد لم تكن طالبا اعتياديا.. فقد تتلمذت على كبار الموسيقيين من بينهم جميل بشير.. وعندما غنيت كانت أول أغنية نسمعها من كلمات الكبير محمد القبانجي والحان الكبير جميل سليم.. هلا حدثتنا عن كيف كانت الانطلاقة مع أولئك الكبار؟

*.  قبل المعهد تعلمت فطريا العزف على آلة العود  ، وعندما دخلت المعهد كان عندي أساسا موسيقيا ، وحتى قبل العود كنت أعزف الناي حيث عّلمت نفسي بنفسي وانا كنت طفلا، أي عندما كان عمري ست سنوات ، وعشقت الناي بحيث كنت في مدينتي خانقين أصنع النايات وتعلمت هذه الصناعة على يد عازف الناي نجم عبد الله الذي كان في فرقة خانقين الموسيقية حيث كانت بداياتي مع تلك الفرقة، ففي ١٩٥٨ غنيت في حفلات المدينة ، وكنت حينها معروفا في المدينة ، وأذكر من أعضاء الفرقة فرمان كاظم الذي علمني أوليات العزف على العود ، لكني عندما انتقلت الى بغداد ، وأثناء دراستي الثانوية ، كرست احدى العطل الصيفية لتعلم العود ، ولمدة ثلاثة شهور ، أي طيلة العطلة لم أخرج من البيت ، وتعلمت مع صوتي ، على أغاني محمد عبد الوهاب ، فكنت أبذل  جهدا كبيرا في وزن الأوتار . ساعدني ذلك مشاركتي كعازف على الناي في فرقة نادي قريش الرياضي في الكاظمية حيث كنت أتأثر بزملائي العازفين  أراقب أياديهم وهي تداعب أوتار آلاتهم ، وأشتغل مع نفسي للتعلم فطريا ، تلك الحالة ورغبة مني في عدم التوقف على ما تعلمته في العزف على آلتي الناي والعود ، تقدمت الى معهد الفنون الجميلة ، وهناك التقيت بالكبار ، على رأسهم المرحوم جميل بشير (ملك العود) وجميل سليم (عبقري الموسيقى)  الشرقية والغربية وغانم حداد (أمير الكمان)وسالم حسين (أمير القانون) وسلمان شكر وأستاذ فاضل الذي درست على يديه آلة الفيولا والكمان ، وآرام بابوخيان ، وهؤلاء كانوا أساتذة فطاحل في الموسيقى وكان لهم أثر كبير في تشكيل سمات مميزة للموسيقى العراقية الحديثة ، منذ الأربعينات والخمسينيات ، حيث وضعوا أسس وأساليب لها، كما يشكل كل منهم مدرسة بحد ذاته .هذا أثر عليّ كثيرا فعلى الرغم من دراستي الفيولا والكمان ، أي تخصصت بالموسيقى الغربية ، إلا أن جذوري تبقى شرقية ، مما ساعدني  على أن أنهل من المعينين ، الشرقي والغربي ، وأعمالي التي قدمتها لاحقا، والتي كنتم تستمعون اليها ماهي إلا تأثيرات تلك البدايات .

*  لكنك لم تكتف بالأداء الموسيقي الانفرادي فقط وإنما شاركت في عروض مسرحية أيضا؟

* أجل فقد مثلت في مسرحية (مصرع كليوباترا) من إخراج إبراهيم جلال ، وأشرف سامي عبد الحميد على الإلقاء ، وأنت كنت معنا ( يقصدني انا الذي أحاوره ع .ر) ، وقمت بأداء دور أياس وغنيت (أنا أنطونيو) التي غناها عبد الوهاب ، وبالمناسبة تعتبر من أصعب أغانيه، حيث كانت تحتوي على مقامات كثيرة وطبقات متفاوتة في العلو والانخفاض، إنها كانت سبب انطلاقتي تقريبا ، إذ كتبت عن أدائي الصحف، وأعرب المرحوم حقي الشبلي عن إعجابه وقال لي لاحقا إنه شاهد المسرحية لأكثر من مرة ليستمع لأدائي لتلك الأغنية ، وأبدى بعدها اهتماما بي وعرض عليّ الانضمام الى فرقة الرشيد للفنون الشعبية .

*  وهل في هذه الفرقة بدأت بالموشحات؟

* كلا.. انا بدأت بالموشحات قبل فرقة الرشيد.. بدأتها مع فرقة أبناء دجلة للموشحات الاندلسية التي كان يقودها الموسيقي الكبير روحي الخماش ، الذي لا أنسى فضله عليّ، حيث كان من علماء الموسيقى الأفذاذ وكان مغنيا كبيرا وملحنا مبدعا، وكنت في هذه الفرقة أغني انفراديا، وكانت عروضنا تقدم في الإذاعة والتلفزيون، ثم دراستي في المعهد للنوتة والأسس العلمية، وممارستي في فرقة الرشيد، كل ذلك غرس في نفسي أساسا موسيقيا سليما، وانا لحد الآن أدين لتلك البدايات المتينة التي ساعدتني على شق الطريق الصحيح على ما أعتقد.

*  يبدو ان تلك البدايات المتينة، كما وصفتها، هي التي كانت سببا في نيلك ثقة قامتين شامختين في الموسيقى العراقية، وهما محمد القبانجي وجميل سليم، حيث أعطاك الأول أغنية من تأليفه والثاني ألحانه لنفس الأغنية؟

* ان اعطائهما أغنيتهما لي، يعني اعترافا منهما بمستواي ، وأنا هنا لا أريد أن أمدح نفسي ، لكني لا بد لي من أن أعتز بتلك الثقة ، الأغنية بالأساس كانت للمرحوم ناظم الغزالي ، وقد حفظتها أثناء التمرينات ، حيث كنت أزور كل جمعة المرحوم جميل سليم في بيته ، أحيانا أذهب معه الى دار ناظم لأنه كان يدرسه العزف على آلة العود ، وكان لديهما مشروعا مشتركا بتدوين المقامات العراقية بتمويل من ناظم وتدوين جميل سليم ، وقد نشأت علاقة بيني وبين ناظم  قبل ذلك ، إذ التقيت به عندما كان يسجل للإذاعة أوبريتا من أدائه وفيه شخصية تؤدي مقطعا صعبا أستمع ناظم لعديد من المطربين المعروفين آنذاك ، وكنت حاضرا باعتباري عضوا في فرقة الموشحات الأندلسية ، وتوقف التسجيل فاقترح روحي الخماش على ناظم أن يسمع أدائي لذلك المقطع ، ولما كنت قد حفظت اللحن ، عبر تمريناتهم ، قمت بأدائه ، فقفز ناظم من الكونترول الى الأستوديو وصافحني وأعرب عن إعجابه بأدائي ودعاني الى بيته وهناك تعرفت على زوجته الفنانة سليمة مراد وعلى جميل سليم وكان يسألني عن تفاصيل حياتي وعرف ان والدي يريدني ان أصبح طيارا على الضد من رغبتي فأخذ يقدم لي النصائح وأوصى جميل سليم وروحي بالعناية بي ومساعدتي على الدراسة بالمعهد .. أما حول الأغنية التي سألتني عنها فحكايتها انني عندما كنت ارافق جميل سليم في زيارته لبيت ناظم، كان هذا بعد عودة ناظم من لندن حيث كان يتعالج، أعطاه القبانجي أغنية كتب كلماتها، مطلعها: " كلما أتمعن برسمك.. أنسى روحي وأنسى اسمك) وبعد ان لحنها جميل سليم بدأ ناظم يتمرن عليها، وحضرت جانبا من بروفاتها، وكانت قد قاربت من موعد التسجيل لكن للأسف الموت كان أسرع وتوفى ناظم. وبقيت الأغنية دون ان يؤديها أحد، لكن بعد فترة اقترح جميل على القبانجي ان يعطي لي الأغنية بعد أن مدح صوتي فطلب القبانجي ان يستمع لي وأنا أودي الأغنية، وعندما أسمعته إياها قال لي بالنص:” إذا تريد تصير مغني روح للقاهرة لا تبقى هنا”، أنا لا أنسى هذه النصيحة وألتفت الى جميل سليم وأوصاه أيضا بالاهتمام بي.. وطلب مني أن أسمعه المزيد، فأسمعته بض المقامات وأغان لعبد الوهاب، وفهمت انه كان يريد ان يختبرني أكثر، لكنه سرعان ما اتخذ قرار الموافقة على إعطائي الأغنية، وحضر الى الأستوديو عند تسجيلها ولم يسبق له إن فعل ذلك.

* وكانت بداية قوية رافقك فيها الكبار، يشجعونك.. وغنيت من على مسرح المعهد.. ومع فرقة الموشحات وجاءت الأغنية التي تحدثت عنها للتو.. لكن علاقتك بالإذاعة، إذاعة بغداد.. هل كانت نافذة أخرى تطل منها على الجمهور ...؟!

* كلا إذاعة بغداد لم تعترف بيّ مغنيا، ولأسباب لا علاقة لها بالمستوى الموسيقي او بالأداء الغنائي، إنما لأسباب أخرى لا مجال لذكرها الآن.. قد تستغرب، فقد بدأت عبر إذاعة الكويت من خلال ستوديو جميل بشير (شركة بشير فون) وهذه الشركة تتعامل مع جميع المطربين العراقيين.. ومعها كانت بداياتي منذ مطلع الستينات لغاية ١٩٦٤، ذلك العام الذي بدأت فيه مع إذاعة بغداد كمطرب، اما قبل ذلك التاريخ، كانت إذاعة بغداد تسمح لي بالغناء مع فرقة الموشحات.. وذلك لأسباب سياسية.

* بالنسبة لإذاعة الكويت هل كنت تغني فيها الأغاني العراقية؟

* أجل كنت أغني أغاني ناظم وأغان من الحان جميل سليم وجميل بشير وعباس جميل ورضا علي وغيرهم، وبعد وفاة ناظم الغزالي كانوا يطلبون مني أن أغني المقامات العراقية، لكنني كنت حينها أرفض لأني كنت أدرس الموسيقى الغربية وكانوا في المعهد يشجعوني على دراسة الأوبرا لأن صوتي فيه خامات ملائمة قادرة على اداء (التنر) و (الباريتون) وصرت حينها أطمح للسفر الى إيطاليا.. ما زلت نادما على رفضي ذاك لأن بعد وفاة ناظم كان الجو ملائما لملء الفراغ وأداء المقام العراقي، إذ أنني ضيعت فرصة كانت ذهبية لتطوير قدراتي في أداء هذا الفن التراثي المميز وكنت مشغولا بابتكار الحديث والتوزيع الها رموني والتوزيع الاوركسترالي.. في حينها كنت أعتبر المقامات شيئا تقليديا.. أما الآن فأنا آسف جدا على موقفي الذي اتخذته آنذاك، وردة فعلي الحالية ترجمتها في عمل البوم أسميته "مقامات عراقية " ضمنته ستة مقامات مختارة، وفي الحفلات أغني المقامات والبستات العراقية لأن هذه هي جذوري.. تلك هي الفرصة التي ضيعتها وكانت الإذاعة الكويتية تطلب وكنت أكتفي بأداء الحديث، وكان كثير من الصحفيين يتساءلون بكتاباتهم عن سبب تغييب صوتي عن إذاعة بغداد، في الوقت الذي يسمعونه من خلال راديو الكويت.. ولأن بدأت مع القبانجي وسليم فلم تنفع محاربة إذاعة بغداد لي وابعادها لي فأجبرت أخيرا على تقديم أغان لي بين الحين والآخر، ولكنهم كانوا يقدمونها على مضض، وخاصة بعد ٦٣ ١٩، واستمرت تلك المحاربة حتى تكللت بحلول عام ٧٤ حيث منعت من دخول الإذاعة منعا باتا .. وعند ذاك توجهت الى الكاسيت.. فكنت أسجل بأجهزة تسجيل بسيطة، وبفرقة محدودة الآلات.. وكنت أوزع الاغاني بجهدي الفردي.. وحرصت على تقديم أغان مضامينها الاحتجاج غير المباشر والتغني بحب الحياة وبناء مستقبل أفضل.. الخ.

* عندما بدأت مرحلة جديدة حولت الكاسيت الى منشور سياسي.. فالكثيرون غيرك اختاروا الطريق الأقصر الى أذن الجمهور فمارسوا الغناء العاطفي.. لكنك اخترت التأسيس الصعب فوضعت جذورا جديدة في الغناء العراقي: (الأغنية السياسية).. كانت هذه التسمية التي أعطيتها كل جهدك، وتعاملت مع الكلمات والموسيقى بشكل مختلف.. وكنت دائما تذكر في مناقشاتي معك، إنك كنت تريد أن تميز بين الأغنية الوطنية والأغنية السياسية.. اذ كان من المعروف في العراق كما في البلدان العربية، كانت الأغنية الوطنية، كجنس فني، يميزونه عن الأغنية العاطفية، لكنها كانت أغنية تقتصر على التغزل بالوطن كأرض وطبيعة وتاريخ ...الخ، تارة، تارة وأخرى، تتغزل بالحاكم وبطولاته.. لكنها فنيا كانت تستعير اللحن العاطفي، التقليدي السائد.. لكني كنت أجد في جهدك محاولة جادة لتثبيت وجهة لحنية وجملة موسيقية ليست مألوفة، بمعنى ابتكار أغنية مختلفة. كنا نرى تجليات تلك الإرهاصات في تطبيقاتك في الموسيقى واللحن وباختيارك للشعر والكلام، الذي ينبع من واقع معاش، من مطاليب الناس الحياتية، اليومية، وكأنك كنت تريد تحويل الهتاف، الشعار المطلبي الى أغنية.. ذات سمات جديدة، مغايرة للسائد. ارجوك ان تتحدث للقارىء عن ذلك التأسيس.. الذي اعتبرته أنا قبل قليل بالتأسيس الصعب.. لأنه فعل يتجه الى تغيير الذائقة؟!

* لقد غنيت الكثير من الأغاني العاطفية، لكني كنت مقلا فيها، لأن هذا النوع من الأغاني يصل الجمهور من خلال الإذاعة والتلفزيون. ولما كانت أبواب هذه المؤسسة مغلقة بوجهي، فهذا كان السبب الرئيسي وراء تلك الشحة.. لكني لم أترك هذا النوع، ما زلت أقدمه حيثما أتيحت لي الفرصة. أما فيما يتعلق باللون الآخر، بشكله الجديد، انا لا أريد أن أقول إنني بدأته، فقد كان موجودا قبلي.. أما من حيث التجديد فيه فيعود الى سنة ١٩٥٦، إذ شهد العراق موجة غضب جماهيري استنكارا للعدوان الثلاثي ضد الشقيقة مصر، حيث تأثرت بالأهازيج الشعبية والهتافات التي كانت تنشدها الجماهير ... وكنت حينها صغيرا، لكني كنت أقوم بتلحين تلك الشعارات بعفوية، ومنذ ذلك الحين وأنا أدرس إمكانية أن تتحول الكلمات البسيطة الى لحن تنشده الجماهير العريضة.. والى ذلك التاريخ تمتد جذور اهتمامي بهذا النوع، وهذا الشعور الوطني العام الذي كان يعم الوطن، دفعني لغناء الأناشيد، حتى أنني ساهمت بتمثيل مسرحيتين عرضتا على قاعة الحرية في مدينة الكاظمية وأخرجهما الفنان حمودي الحارثي، وأذكر ان الفنان قاسم الملاك كان من بين الممثلين فيهما.

وجدت ان الأناشيد الوطنية تعاني الجمود اللحني وهي أسيرة إيقاعات الما رشا ت، وكانت تقلد الما رشا ت العسكرية العالمية التي انتشرت اثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد كانت تلك الأناشيد تؤدى بقدسية، وبشكل تقليدي ومن غير المسموح الرقص معها او حتى التصفيق.. وكان هناك نوعا آخر من الأناشيد الوطنية، تلك التي كانت تتسرب من السجون.. حيث كان السجناء ينسجون كلمات وطنية وينشدونها على منوال أغان شعبية متداولة، وتتلقفها الجماهير وتغنيها بالسر والعلن، ومن يطلق سراحه من السجن يعمل على نشرها، وكانت بمثابة شكل من أشكال الاحتجاج من جهة اختلافها عن الأناشيد الوطنية التي تفرضها السلطة على المدارس والإعلام.

لكن في عودة الى سؤالك، انا أرى ان مفهوم الأغنية السياسية له ايقاعاته المتنوعة وله سلمه الموسيقي المتميز، والذي يعتمد الحانا ذات مسافات وأشكالا معاصرة، لم تكن موجودة.. لقد اشتغلت على تأسيس النمط الذي عرف لاحقا في العراق، بعد ان شاهدت تجارب عديدة في هذا المجال، سابقا، عندما شاركت في مهرجان بالجزائر، وكذلك حضوري مهرجان شيراز في إيران عام ١٩٦٨، وهناك استمعت الى أنماط جديدة من الإيقاعات، طبعا لا علاقة لها بالأغنية السياسية، لكنها على ما يبدو أثرت بيّ فيما بعد. وفي مطلع السبعينات تعاملت مع قصائد شعراء مثل محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، وكنت من بين أوائل الملحنين الذين اشتغلوا على الشعر الحر.. والى جانب ذلك اتجهت الى الكلمات الشعبية البسيطة والتي حرصت في تلحينها على إعطائها نكهة جديدة، واعتمدت نمطا مغايرا للمألوف، تنطوي على إيقاعات، تستطيع مع أدائها أن ترقص، وأن تدعم الكلمات بحركة جسمك، وأن تدلل في نفس الوقت على وعي وتعبير عن رأي، فهي ليست مجرد هتاف يقتصر على: يسقط أو يعيش، وإنما دعوة الى الحياة في مجتمع عادل وإنساني لا ظلم فيه. إنها لا تمدح الحاكم.. إنها تتغنى بالإنسان، تبشر بالمستقبل، بالغد السعيد.

أنا لم أمدح في أغنياتي حاكما أو رئيسا أو حزبا.. لقد غنيت للجميع، انطوت أغنياتي على مضامين فكرية، تقدمية، تنتصر للإنسان.. وهي حتى في أدائها بسيطة، تستطيع أن تغنيها وأنت تأكل أو تشرب، وأنت تعمل في المصنع او الحقل.. ممكن أن أطلق عليها أغنية حياتية. في حينها كتب النقاد المتزمتون ضد اتجاهي الجديد بحجة إني خربت الأغنية الوطنية وحطمت النشيد الوطني. وكانوا يؤكدون على طقوس الجمود في الأداء.. وجدت نفسي ان تكون أولويات مهمتي، وعملي الرئيسي، بالعمل المثابر في طرح نموذجنا الجديد، عن طريق تمريره من خلال الأغنية الغربية الجميلة والراقصة، والمسجلة على كاسيتات واسطوانات بتقنية عالية جدا، فجذبت الشباب لها، وتوفرت عندهم قناعة بها، بل بدأوا يتساءلون: لماذا لا يرقصون وهم يغنون او يسمعون الى أغان تنشد للحياة والعمل وحتى الحب.. أغان ذات مضامين فكرية جيدة.. وقد نجحنا في هذا.

* باعتقادي ان طريق وصول أغانيك للجمهور كان سريعا.. والسر في ذلك اختيارك للكلمات البسيطة والجمل اللحنية البسيطة أيضا.. هذا فضلا عن جدتهما. لكن هناك مسألة أخرى أود منك تفسيرها وهي أن المعروف عن الأغنية العراقية فيها مسحة حزن وأسى.. هذان الحزن والأسى اللذين عادا في الآونة الأخيرة بقوة على ما يبدو بتأثير من الظروف التي يعيشها العراق.. لكنك كنت متفائلا بألحانك، إذ كانت أغانيك ترقص للعمل والحياة، كيف خرجت من أسار ذلك الحزن؟

* أنا بطبيعة الفكر الذي أحمله، فهو فكر متفائل ... لقد تعلمت أن أكون متفائلا في ظل أسوأ الظروف، وذلك السائد الذي حاولت كسره/ فقد بذلت جهدا استثنائيا بطرح الحزن والمآسي بطريقة تشجع على تجاوزها. فالتطلع الى المستقبل يدفعك الى التطور والعثور على حلول لبناء غد أكثر إشراقا.. لقد استخدمت أنغاما موسيقية فرحة، إن الومضات اللحنية التي كنت أبثها بالكلمات تجعلها أكثر مرونة وطراوة.

* كنا نشعر وأنت تؤدي أغانيك كأنك قد وضعت في حساباتك اللحنية علاقة أغنيتك بالجمهور بشكل مسبق.. إذ كنت قليلا ما تستخدم الكورس معك.. وكنت تعتمد في هذا على الجمهور المتلقي، بديلا له، أي تدفع الجمهور بالتالي للمشاركة الآنية معك، كيف استطعت ان تكسر هذا الجدار أيضا؟! هذا الجدار القائم ما بين المايكرفرون وفيما وراء المايكرفون؟

* كنت أسمع ألحانا وجملا موسيقية معقدة لا يستطيع أداءها غير المحترفين.. حينها شغل تفكيري سؤال: كيف أغني للعمال في المصنع؟ او في أي حفلة؟ توصلت لو أن هذا الجمهور لم يستطع أن يحفظ ولو شطرا واحدا من أغنيتي، فأنا أعتبر نفسي فاشلا.. لكنني لما أرى الجمهور يردد أغنيتي عند سماعه لها، عند ذاك فقط، سيملؤني إحساسا بأنني قد أنجزت مهمتي.

*  ألم تشعر بخطورة ما، حيث يذوب الفرد بالمجموع...؟!

*  على العكس.. أنا كنت أحرص على الأداء الجماعي، كنت في اليمن أقف وراء الكورال أعزف على آلتي، وكنت ألاقي الاحتجاج حين كانوا يقولون لي كيف لفنان كبير ينزوي وراء الكورس.. هنا أيضا كسرت الفردية.

* وعلى هذا الأساس قادني تفكيري الى استنتاجي الذي ذكرته لك، إنك قد أسست لأداء جديد.

 

* نعم، أتفق مع استنتاجك.. هكذا أردته أداء جديدا، يقوم بالأساس على الجماعية، على إشراك الجماهير.. وضعت لي هدفا بأن أوجه أغانيي الى أبسط الناس وأقلهم ثقافة. النخبة لا أريد أن أغني لها، إنها لا تحتاجني، هي مثقفة، انا كنت أريد أن أضع فنا شعبيا، يرفع من ثقافتهم، من ذائقتهم، يأخذ بيدهم.. وهكذا عملت أغان مثل: "أبو الجاكوج" و"أبو علي" و " لا تسألني عن عنواني " وكثير غيرها .. قدمت مؤخرا حفلة في البحرين غنيت فيها أغانيي القديمة، تلك التي تجاوز عمرها الخمسة وعشرين عاما، وفوجئت حد البكاء إذ وجدت الجمهور مازال يحفظ تلك الأغاني ولم أحتج الكورس، وكان صوت الجمهور هو الأعلى، الواقع لم أك أنوي تقديم تلك الأغاني، لكن بعد انتهاء كل أغنية يبدأ الجمهور بترديد أغنية قديمة مما يضطرني الى غنائها وراءه، كانت مهمتي أن ألقن الجمهور أداء أغنيتي ليؤديها معي وذلك بالأساس يعود الى الجمل الموسيقية السهلة والتي تكمن قوتها في سهولتها والإيمان بكلماتها وترجمتها لحنيا.. لقد تعاملت مع شعراء فهموا فكرتي.. أتذكر ان الشاعر كاظم السعدي كان حين يكتب كنت أتلقف كلماته وألحنها ونعمل، معا، كورشة.. وكان هدفنا ان تكون أغنيتنا السياسية هي البديل عن المقالة أو الكتاب التحليلي ...الخ. لكن للأسف الشديد أن أغنيتنا، بهذه التوجهات، لم تصل الى الجمهور بسهولة بسبب الإعلام العربي الرسمي الذي لم يتعامل معها، فظلمها حينا وغيبها أحيانا كثيرة، فحرم الجمهور منها.

*  طيب جعفر، بعد رحلة طويلة في الفن.. مارست خلالها التلحين والغناء وكتابة الموسيقى، وتأسيس وقيادة الفرق الكورالية والموسيقية، أين أنت الآن؟

* جغرافيا؟!

* كلا.. ليس جغرافيا، اقصد بسؤالي، فنيا؟!

* بعد تجربتي بالعراق.. نقلت تجربتي الى اليمن.. خلقت أغنية سياسية جديدة في اليمن وأسست فيها فرقا عديدة، فرق كورال في كل المحافظات، أغانيي مازالت لحد الآن تغنى في اليمن.. عملت على تعليم جيل من العازفين من خلال معهد الفنون الجميلة، ففي كل فرقة موسيقية عدد من طلابي والكثير منهم أكمل تحصيله الموسيقي – العلمي العالي وهذا ما يملأ ني فخرا وسعادة. أنا حولت احدى غرف بيتي على ضيقه الى ورشة عمل بسيطة، أوزع الموسيقى، وأعيد تسجيل بعض الأغاني القديمة وعملت البوما بعنوان (الغريب) وعملت سي دي باسم (أشواق) أغني فيه ألحان رياض السنباطي، ما زلت أغني الأغاني العاطفية. وعملت البوم (الذكريات) أنا وخماسي بغداد الوتري، والبوم (مقامات)، والبوم (القدس في البال)، وهناك الكثير من المشاريع، وأواصل تسجيل نتاجي الجديد، وأنا أعزف على كل الآلات من خلال الكومبيوتر حيث ما زلت أتعلم للإفادة من التقدم التكنولوجي.

* على ما أظن أن مشكلتك تكمن في توزيع (نشر أو ترويج) هذه النتاجات الكثيرة.. اليس كذلك؟

*. شركات الإنتاج للأسف الشديد تبحث عن الربح في المصاف الأول.. ولتحقيق ذلك تطلب نمطا معينا من الغناء.. أصبحت الموسيقى اليوم بإيقاع، واحد، وبلحن واحد.. اللحن نفسه، السريع الراقص، لا يهمهم مستوى الكلام، الأهم هو فعل الترقيص، وأصبحت الناس تسمع بأرجلها وليس بآذانها.. نحن ندعو الى اللحن الجميل الذي يتناغم مع الكلام، الذي ينطوي على قيمة فنية جمالية، وقيمة فكرية إنسانية، الكلام الذي يلحن بتناسق ويحفز على التعبير بحركة الجسد، بالرقص.. أنا علاقتي بشركات الإنتاج ضعيفة جدا، ليس بسببي وإنما بنوعية نتاجاتي من الأغاني التي لا يريدونها.

*  في الواقع ماذا يكمن وراء عدم تعاملهم مع هذه النوعية.. هل هناك من خطة عندهم لإفساد ذائقة الناس؟! وهل هذه الخطة بنت يوم وليلة أم إنها نتيجة دراسة مسبقة؟

*  بالتأكيد جاء هذا ثمرة تخطيط ودراسة.. ما يحدث هو عبارة عن غسل دماغ.. وهذا    القوية جدا.FMيبدو واضحا في بعض الإذاعات الموجهة.. بعض إذاعات الـ

إنهم يركزون على نمط معين من الغناء.. على مغنين محددين.. هم بهذا يدفعون الى التغيير بحجة التطوير.. لكنني أخشى إن هذه الموجة ستؤدي بالكثير من المقامات الشرقية الاصيلة الى الاختفاء.. إنها عملية محو.. نعم، الكثير من الإيقاعات الأصيلة ستذهب أدراج الرياح.. ستفقد الأغنية العربية هويتها.. لقد فقدت الأغنية العربية الكثير من سماتها.. منذ العصر العباسي، لحد الآن فقدت الأغنية العربية الكثير.. لكن تلك كانت فترة طويلة تخللتها حروب وغزوات وهولاكو ومغول..... الخ. لكن التسارع الذي نشهده اليوم في الهروب من الهوية مريع ولابد من إيقاف انحداره.. منذ السبعينات أستطيع أن أرصد إن بعض المقامات لا أحد يضع ألحانه وفقها مثل مقام (فرح فزة) ومقام (النكريز ) ومقام ( شط عربان) .. تركت مقامات كثيرة وانحسرت مقامات التلحين بإثنين ويطغي تأثير الموسيقى الغربية على الموسيقى الشرقية بشكل لا يوصف بحجة التوزيع الموسيقي.. الخطورة تكمن إنك الآن تجد ان اللحن شيء والذي يؤديه المغني لا علاقة له إطلاقا بالموسيقى والتي هي مجرد حشو.

* اليس هذا هو نتاج تفشي الأمية.. قد لا يعرف هؤلاء تلك المقامات أصلا؟!

*  كلا، على العكس، الذين يعملون ألحان اليوم هم موسيقيون كبار وتقف وراءهم شركات إنتاج وستوديوهات تملي عليهم ما تريده.

* ما يريده السوق؟!

* أحسنت.. لقد تحولت الأغنية الى بضاعة.. سلعة.. يتم تسويقها ضمن شروط معينة، تفرضها مواصفات مسبقة.. تحولت الى وجبة طعام سريعة.. سندويج وهمبرغر.. تأثروا بموسيقى الغرب، المعاصرة، لكن باستنساخ سيئ ممسوخ.

*  طيب هذا يقودنا الى التساؤل عن تأثير التطور التكنولوجي في الآلات وفي تقنيات الإستوديوهات وإدخال المؤثرات الصوتية أثناء التسجيل مثلا؟

* التكنولوجيا سيف ذو حدين.. بقدر ما يتعلق الأمر بي فأنا أحاول استثمار كل تقدم تكنولوجي في صالح نوعية وسوية الأغنية.. انا الآن في ورشتي الخاصة، الاستوديو الصغير، أعزف وأوزع وأسجل، أتعلم كل جديد لتطويعه بحيث يخدم أغنية تكون نقية التسجيل / فيها صوت واضح المعالم، وتوزيع آلات موسيقية متقن يصل الى المستمع مفيدا وممتعا.. عملت في بداياتي كمساعد مخرج للفنان جميل بشير ، لقد تتلمذت على يد هذا الفنان الكبير في شغل الأستوديو أيضا ..لقد كان ماهرا ومعروفا في دقته الحرفية العالية في المونتاج : كان وقتها أشهر مونتير ، كان حينها يمنتج شريط الأغنية بتقطيعه بواسطة المقص ، كان يحذف جملة موسيقية خاطئة ، او إيقاعا لا يرغب فيه ، يستخدم المقص العادي في القطع ، كان قلبي ينقطع حين يفعل أمامي ، لكن يده الساحرة كانت تأتي بنتائج هائلة ..اليوم أصبح الطريق أمام أغنية أفضل ممهدا ، بسبب من تطور الأجهزة والتقنيات الحديثة ، لكن بشرط ان لا تسيء هذه التقنيات للتراث وتشوهه بحجة التجديد.

   أبو ظبي – آذار 2003

 

عرض مقالات: