لولا شقيقي جواد ربما كنت آنا شخصا آخر، بأفكار أخرى وسيرة أخرى. لكن جواد بما أجتمع فيه من خصال الذكاء الحاد والأستقامة والشجاعة، حول كوخنا الطيني الى منتدى لمناقشة أفكار جديدة، غريبة تماما عن ما كان سائدا في أسرتنا، ومحيطنا الأجتماعي الغارق في التخلف، وساعده في ذلك عاملان:
الأول هو الأنقلاب العام في الحياة السياسية وأجواء الحريات الفكرية التي أعقبت الأشهر الأولى من الأنقلاب الذي أطاح بالملكية. والثاني مرونة والدي وحبه الشديد لابنه البكر وثقته به، وتوافق جوهر الأفكار التي يروج لها جواد، مع مقته الفطري للظلم ونزوعه الى العدل وصيانه كرامة الأنسان، وهو الذي كان يختم صلاته بدعاء يقول: (( أللهم أجعلني من المظلومين وليس من الظالمين)).
كان عبدالله ذو الخمس سنوات شغوفا بالنقاشات التي تدور مع الضيوف، من أقارب العائلة وأصدقائها، مبهورا بشقيقه الذي يطرح أفكارا صادمة لمحاوريه. ولولا أحترامهم لأبي وتأكدهم من أيمانه الديني العميق لوجهوا له ولولده تهمة الكفر والخروج عن الدين. فكيف يريد المساواة بين الناس رجالا ونساء بغض النظر عن أصلهم وعرقهم ودينهم، والنصوص القرءآنية تؤكد أن التفاوت في الرزق والمنزلة أمر يقدره الخالق لحكمة يعلمها. ويستعينون في ذلك بالآيات التي تقول:{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } و { الله فضل بعضكم على بعض في الرزق }؟؟؟ وكان أبي يرد أن الله لا يرضى بالظلم ولا يحب الظالمين والمساواة عدل والله عادل، ولابد أن يقف مع من يدعو الى العدل.
كان عبدالله الصغير يقلب ما يطرح من تساؤلات وأجابات وأعتراضات في عقله، ينحاز إلى شقيقه، ينبهر باجاباته، وفي أحيان نادرة لا يتفق معها.
جو الأنفتاح الفكري الذي أشاعه جواد في الأسرة سمح لشقيقتي الكبرى جوادة أن ترتبط بمنظمة نسوية تدعى رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، وتنشط فيها، ودخلت حياة عبدالله الصغير متع جديدة لم تكن معروفة من قبل، هي المهرجانات الأحتفالية التي صار يصطحب إليها من قبل شقيقته أو شقيقه أو أبن عمه الأكبر.
لكن تلك المهرجانات الممتعة للصغير كان لها وجه آخر، هو النضال من أجل حقوق العمال، والذي سرعان ما تسبب بفصل شقيقي من عمله. وصارت الأجواء تتوتر بشكل عام. وصرنا نسمع منه عن صدامات بين قوى كانت متحالفة الى ما قبل عام. وعن قمع تمارسه السلطة لمن رحبوا بها وبإصلاحاتها.
وفجأة غاب جواد أياما، وأعلمنا أصدقائه بانه معتقل في مديرية الأمن العامة.
أول تعرف الى التعذيب
في صباح باكر وعلى رصيف بارد مقابل دار علي غالب عزيز نائب الحاكم العسكري العام، جلسنا أنا وعمتي وأمرأة أخرى لها أبن معتقل، ننتظر خروجه لنقدم له مذكرة بشأن إعتقال جواد. حاولت عمتي ورفيقتها أن تعرفا من الحرس ما إذا كان المسؤول العسكري ما زال في الدار لنواصل أنتظاره أم خرج الى عمله، لكنهما لم تحصلا على أجابة. ولم نرى المسؤول العسكري، الذي كان يعتقد انه أقل تصلبا في معاداة الناشطين من اجل حقوق العمال, ولم تحتفظ ذاكرتي بصورة عن كيفية نهاية الحدث ألذي كان أول تعامل لي مع السلطات.
بعد أيام أصطحبني أبي الى مستشفى الحميات، وفيها صدمتني صورة شقيقي وهو مسجى على أحد أسرة المستشفى، فاقدا وعيه، تغطي وجهه المتورم كدمات التعذيب. أحدى يداه مقيدة الى مسند السرير، يحرسه شرطي، وما أن بدأت عمتي النحيب أمام منظر جواد حتى أسكتها أبي. مسد رأس جواد وقال بصوت ثابت: (( عفيه يا أبني .. رفعت راسي .. ما خنت أصحابك )).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتبسات من مشروع مذكراتي المتعثر