في بعض الأحيان ينسى المرء أن يُدون صفحات مشرقة في ذاكرة التاريخ عن حیاة المناضلات .. والمناضلين، الذين كرسوا جل حياتهم من أجل قضايا مصيرية تمس حياة الشعب. فهناك من النساء اللاتي تَركن بصمتهن على زرقة السماء الصافية. وفي هذا الصدد ارتأيت الاشارة إلى امرأة شامخة، امرأة مناضلة التي سجلت البطولات والتضحيات في أصعب الظروف وأخطرها دون تردد، بل ساهمت في فرش البساط الأحمر أمام اسماء غنمت من الثناء والتكريم ما يكفي ویزید عندما كانت على قيد الحياة وكذلك في مماتها ودخلت التاريخ من أوسع أبوابها، وبينما أولئك المناضلات اللواتي حملن أرواحهن على اكفهن بروح جهادية عالیة في ظرف دقيق وعصيب یصعب على المناضلات العمل فيه ما زلن كجنود مجهولين.
لقد شغلت المرأة حضوراً واسعاً في معظم الهيئات الحزبية وكان لها دور بارز في محطات الحزب الشيوعي العراقي إبان الحملات القمعية الشرسة ضد الحزب وقتذاك، وكانت في مقدمة الرفاق في إعادة هيكلة الحزب بعد كل ضربة موجعة. بالإضافة إلى المهام اللوجستية، مثل الطباعة والضرب على الآلة الطابعة ونقل البرید وتوزيع المناشير ونشر سياسة الحزب بین الجماهير، وتوفير الأدوية، فضلا عن ذلك فقد تبوأت مسؤوليات أكبر في الهيئات القیادیة والوسطية.
لو نتفحص صندوق الذاكرة ونتمعن في سبر غوره فنجد أن مراحل حياة جیران شیخ محمود مليئة بالتفاصيل والنضالات المتنوعة. حيث لعبت دورا استثنائيا وبروح شيوعية في دفاعها المستميت عن حقوق المرأة و نشأتها ونضالها في صفوف الحزب من أجل حقوق الكادحين.
في نهاية عام 1983 التقيت بثلاثة رفيقات في قاعدة كرجال لقوات الأنصار البيشمركة (في هورمان). وهن جیران شیخ محمود، خرمان محمد ونیشتمان احمد. هؤلاء الرفيقات جاؤوا من مدینة السلیمانیة، التي كنت أعد النزول إليها في مهمة حزبية في أقرب فرصة.
كانت الرفيقات يتمتعن بمعنويات عالية جداً. أعمالهن الجريئة تنم على روح التحدي والصمود والإرادة القوية والمثابرة وروح المغامرة المحسوبة من أجل توفير حياة كريمة للآخرين.
المسؤولة الحزبية للخط النسائي الرئيسي كانت الرفيقة جیران شیخ محمود. الرفيقات الثلاث الآنفة الذكر شكلن مع الرفيقة بسوس، منيرة (اللجنة النسائية الحزبية داخل مدينة السلیمانیة). إضافة إلى المهمات الحزبية الملقاة عليهن في سعيهم الحثيث على تحريك وتنظيم الجماهير، كن يقمن بالتنسيق مع الخطوط الحزبية الأخرى. (هذه الأحداث المذكورة قبيل نزول كاتب السطور إلى داخل السليمانية).
لم يقتصر نشاط الرفيقات في صفوف هذا الخط فحسب، بل امتدت إلى خطوط تنظيمية أخرى
كانت لهم نشاطات واسعة بين صفوف الجماهير وقدمن للحزب الكثير من الأعمال النوعية. الناشطات في هذا الميدان على سبيل الذكر، منهن هيرو عبد الله كوران وقمري خان زوجة الرفيق الراحل محمود حلاق ومنيرة صالح وفاطمة عثمان سعید أم شیردل و ناسكة زوجة الرفيق جمال والي و شلیر عبد المجيد عضو المكتب السياسي الحالي للحزب الشيوعي الكردستاني وعائشة أم كیفي وسوزة امین و ئامانج امین و نجيبة محمود.
وفي خط آخر یقوده الرفيق دلیر جلال والرفيق رحمن غریب، ضم في صفوفه عددا من الناشطات في المجال الطلابي، حيث قمن بتوزيع البيانات وشعارات الحزب في المدارس وقدمن المساعدة للرفاق في نقل الأسلحة وهن زریا عمر (زانا)، كویستان رحیم، ماردین ابراهیم، بروین غریب، ئافان عارف، شکریه سعید، كژال غریب و آخرین.
عرفت المناضلة جیران شیخ محمود منذ نعومة أظفارها باصرارها على تحقیق بعض من طموحاتها الشخصية كما أثبتت صلابة المرأة الشیوعیة في الدفاع عن مصالح شعبها بنكران ذات في أحلك الظروف. كما تحلت بالمواصفات التي تمكنها من قيادة التنظيم النسائي في مدینة السلیمانیة وغدت مصدر قوة رفيقاتها، اللاتي شعرن بدفء وجودها، وحيويتها وابتسامتها الدائمة رغم اشتداد الظروف.
فتحت عينيها في عام 1941 على قصبة قادر كرم، وهي ناحیة تقع في جنوب كركوك، وسط عائلة اشتهرت بالنضال الوطني والطبقي ذلك الذي أذاقها السجن والظلم والموت، لتنشأ في مناخ قادها إلى العمل الثوري، وهذا الزخم الثوري قد أصبح مصدر قوة في تثبيت صراعها المبدئي في نضالها ضد الأنظمة المتتالية على العراق، فانضمت في شبابها إلى المنظمات المهنية.
حيث أقدمت السلطات الفاشية بعد انقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963 على إعدام اثنین من خوالها هما البطلان الشيوعيان شیخ مارف البرزنجي و شیخ حسین البرزنجي، وتعرضت العائلة إلى العديد من المداهمات من قبل الاجهزة الامنیة في سنوات العهد الملكي بسبب نشاطها السياسي والحزبي، كل ذلك لم يثبط من عزیمتها بل زادها اصراراً على المضي قدماً في النضال من أجل رفع راية الحزب خفاقة.
عندما جرح ابنها ئاسو شیخ علي في انتفاضة آذار 1991 المجيدة. شقت طريقها من بين الحشد ودنت من ابنها، و وجهها يطفح فخرًا واعتزازُا وهي ترى ابنها یفدي بحياته من اجل حياة حرة كريمة للجمیع.
لم تتمكن الرفيقة جیران دخول المدرسة بسبب الأوضاع الاجتماعية، حيث تم فتح مدرسة ابتدائية للذكور فقط في ناحية قادر كرم مما حُرم من التعلیم في طفولتها اضطرت أن تدخل مدرسة محو
الأمية وهي بعمر 14 سنة وتتفوق في الصف وبعدها قدمت العائلة والرفيقات لها المساعدة في التعلیم تمكنت من الحصول على شهادة الابتدائية.
كان للحزب دور متميز بین صفوف النساء وكانت الرفيقة جیران إحدى الناشطات والمساهمات في نشاطات المرأة في كركوك.
انطلقت مسيرتها النضالية وهي في سن السادسة عشر، حيث انتمت إلى منظمة رابطة المرأة العراقية قبل ثورة 14 تموز وبعد أن فسح المجال لرابطة المرأة العراقية بالعمل العلني وفتحت فروع للرابطة في المحافظات العراقیة بعد ثورة 14 تموز 1958.
في شهر كانون الثاني لسنة 1959 تشكلت في السلیمانیة الهيئة القیادیة للرابطة في المحافظة وأصبحت الرفيقة جیران احدى عضواتها اضافة إلى العضوات التالیة: زکیة بابان، منیرة رفیق سەعاتچی، حەلاوخان زوجة شێخ لطیف الحفید، رابعە خان أم ئامانج، شمسە مەحمود المعروفة شمسەی خولەزیڕە، نەجیبە قادرمخێر، منیرة صالح زوجة حسین عەلی غالب، عطیة نوري اخت الرفیق بهاءالدین نوری ابو سلام، نزیرە مجید، عائشە شێخ حسێن اخت الشهید شێخ علی البرزنجی وخانم زهدی.
في نهاية عام 1959 تزوجت الرفیقة جیران برفیق دربها شیخ علي شیخ محمد البرزنجي و كان في ذلك الوقت يمتهن التعليم، حيث نقل إلى محافظة كركوك وكانت الرفیقة بمعيته وكان كادرا حزبياً.
عام 1959 عندما بلغت الثامنة عشر من عمرها ترشحت للحزب ونالت شرف العضویة في نفس العام و تعمق وعيها السياسي بعد انضمامها إلى صفوف الحزب.
ومن خلال نشاطها الواسع بین الجماهير بعد فترة وجيزة أصبحت عضوا في لجنة قاعدية والتي تحوي على مجموعة من الخلايا الحزبية وقامت بنشاطات عديدة في المنظمة الحزبیة ورابطة المرأة في كركوك وعملت في اللجنة القیادیة للرابطة في كركوك مع الرفیقات ست سنیە جباری، ایتان جلال، جمیلە امین یامولکی، لوتفیە عبد الواحد و قد شاركت في المؤتمر الثالث لرابطة المرأة العراقية في بغداد عام 1961، ولم تشارك في المؤتمرين الأول والثاني بعد ثورة 14 تموز رغم انها انتخبت كمندوبة لأسباب خارجة عن إرادتها.
بعد انقلاب شباط الدموي تحولت الرفیقة جیران إلى العمل السري في كركوك والتحق رفيق دربها بقوات الانصار البيشمركة في منطقة بمو.
اضطرت لاسباب أمنية ان تنتقل بعد عودة زوجها الرفیق شیخ علي إلی مدینة السلیمانیة والعمل في ظروف سرية. و بقرار من الحزب انتقلا إلى اربيل ومن ثم إلى بغداد وعملت في ظروف الاختفاء هناك في الفترة 1963 - 1972، مرة اخرى عادوا إلى السلیمانیة للعمل الحزبي.
في عام نیسان 1972 عملت في لجنة حزبية نسائیة بمستوى قضاء باسم لجنة ئالا مكونة من الرفیقات زکیە بابان، نازنین ، ئافتاو عەزیز، صنوبر، نەجییبە صدقی، قمری ، رابعة.
بعد الحملة الشرسة التي أقدمت سلطة البعث ضد حزبنا الشيوعي العراقي وانسحاب الحزب من الجبهة، تحولت الرفیقة جیران إلى العمل السري بقرار من الحزب .. و تشكلت هیئة قیادیه جدیدة من الرفیقات هیرو عبدالله كوران، قمري، عائشة حسین، رابعة أم ئامانج والرفيقة جیران. وجرى إعادة الاتصال بالرفيقات على أساس فردي وحول التنظیم إلى العمل السري
في الربع الأول من الثمانينات وجهت لمحلیة السلیمانیة ضربة موجعة من قبل النظام الدموي وأجهزته القمعية حيث جرى اعتقال عدد من الرفاق في محلیة السلیمانیة وفي هذه الحملة لم تعتقل من الرفیقات في الهيئة الحزبية سوى الرفیقة قمري التي صمدت تحت التعذیب في تلك الحملة.
تلك النشاطات العظيمة للرفيقة جیران في مراحل مختلفة من العمل السري والعلني أتاحت لها فرصة كبيرة للاحتكاك بالجماهير الواسعة.
بسبب ذلك العمل الشاق والعصيب وفي ظروف شائكة تجمعت لديها معلومات كثيرة واكتسبت خبرة واسعة للتعامل مع الوضع وواصلت نضالها في صفوف الحزب بجد وتفان وعملت بدون كلل من أجل تحقیق أهداف الحزب.
رغم متابعة أجهزة النظام في فترات متفاوتة املا منها في الايقاع بها ، ولكن كانت شديدة الحذر والبراعة، تمكنت باستخدام ذكائها من الافلات منهم وان تستمر في عملها في الخفاء.
بعد تسلمي التنظیم في 27 كانون الثاني 1984 إلى انتفاضة اذار 1991 المجيدة، لعبت المنظمة النسائية والتي كانت الرفیقة جیران مسؤولة لها، دورا هاما وتحریضیا بین الجماهیر من خلال نشر سیاسة الحزب والمساهمة في توزيع البيانات في المحلات السكنية. وبسبب نشاطها الفريد بين الجماهير النسوية، اظهرت للحزب قدرتها في العمل الحزبي والجماهيري والسياسي ككادر متقدم، حتى غدت قدوة لمن تحرص على اجتذاب الجماهير إلى ساحات النضال. كان لها دور كبير في تمويل المنظمة بالمال من خلال جمع التبرعات والاشتراكات. صارت للمنظمة قاعدة جماهيرية واسعة بعد توسيعها، حيث كانت لها مساهمات فعلية في تعبئة الجماهير في دعم انتفاضة ایار عام 1984 وانتفاضة آذار 1991 المجيدة جنباً إلى جنب كافة الرفاق في الخطوط التنظیمیة الأخرى.