كان للاستاذ سعدون هليل، الفضل في تاكيد اهتمامنا الى مباحث ومقالات المفكّر هادي العلوي، وذلك من خلال محاضرة له في بغداد، عرض فيها بعض ملامح سيرة العلوي وفكره، وذلك بمناسبة صدور كتابه المعنون (هكذا تكلّم العلوي)، والذي ضم بين دفتيه عددا من المقالات والابحاث الثمينة في الفكر والفلسفة، والرؤى الاجتماعية العميقة لمختلف مسائل واقعنا الاجتماعي والسياسي.
كان هادي العلوي زاهدا، متصوفا، نقيّا، قبل ان يكون مفكرا ماركسيا صميما. ففي كتابه (مدارات صوفية) رؤية تطهيريّة، ومسلك صوفي متجذر في وعيه. بعيدا عن الجاه والمال والنفوذ والسلطة.
لقد واسى هادي العلوي المسحوقين والمهمشين والفقراء، بحياته وسلوكياته، قبل فكره. كان العلوي فقيرا، بقدر ما كان الفقراءُ فقراءً، لقد تخلّى عن اثاث بيته المتواضع لهم، واثر ان يعيش كالمعدمين والمحرومين في المهجر. واكتفى من الماكل بما يقوّم به عماد حياته من النبات، ومنع نفسه اللحم، وكلّ ما تشتعيه، البطن الملغّمة بالغرائز والطبائع.
اكتشف العلوي في علي بن ابي طالب، وابي ذر الغفاري وعمر بن عبد العزيز، ورابعة العدوية، والبسطامي، والحلاج، وابي مديَن، وغيرهم من كبراء الروح، وعظماء السير، منهجا مؤاسيا في الحياة.
كما انّه وجدَ في تراث الصوفية العظيم الذي تزخر به ثقافتنا العربية الاسلامية ، جذور الاشتراكية الارسخ والاعمق والاهم ، من هنا امنَ العلوي بانّ تراثنا الانساني العظيم ، بكلّ ما يحمل من قيم التضحية بشهوات النفس ورغباتها ، وبما تنطوي عليه من قيم التنقية الروحية ، والزهد بمتاع المال والغنى والسلطة ، وكذلك بما تمخّضت فيه قِوى المعارضة والرفض للسلطة الغاشمة ، وبما خاضته قوى الامّة الفاعلة والنابضة من تحدّي لسلطات القهر والظلم والاستبداد ، ما يؤهل تراثنا العظيم لتنمو فيه قيم الشيوعية الخالدة ، وتمدّ جذورها الى اعمق طبقاته وتكويناته الجنينية المؤسسة .
لقد كان علي بن ابي طالب محقّا حين واسى الجماهير بنفسه، ورفض ان يحتكر المال، ليبني سلطة القوّة التقدمية. لقد ارسى علي بن ابي طالب، اولّ مباديء الشيوعية الكبرى، حين ساوى بالعطاء بين الموالي والعرب، في اوّل تحدٍ يعلنه خليفةٌ على الملا، كما انّه رفض ان يتخذ قصرَ الامارة، برجا للحكم، يتطاول فيه على الناس. وابى على نفسه ان يمتطي دابةً تحمله غير الحمار، وان يرتدي غير قميصٍ مقطعة اردانه، وان ياكل غير التمر وخبز الشعير، وما خشُن من المطعم.
لقد كان علي بن ابي طالب (ع)، قبل ان تختاره الخلافة، غنيا، يمتلك من المال والبساتين الشيء الكثير بما يُؤثره به الخلفاء من عطاء ومواهب واموال. لكنّه خلع عنه كلّ ذلك، وتجلبب للفقر جلبابا، حين تحمّل مسؤولية العدل بين الناس.
اليس في ذلك دليلٌ قاطع، على انّ ما تسعى اليه الافكار التقدمية المساواة بين الناس جميعا، وتحطيم انياب ومخالب الاغنياء والمترفين، المعتاشين على دماء الفقراء ، مترسّخٌ اصلا في عمق طبقات التاريخ ، وله من تربة المحرومين والمستضعفين ، جذورٌ؟
اننا نتحدّث عن تجربة مصيرية كليّة ، معباة بدماء المضطهدين والمسحوقين ، والذين ناضلوا في كلّ بقاع العالم ضد مصاصي الدماء والسلطويين. بكلّ تاكيد ، ما بلغه فكر العلوي من نضج ، قد يحرره من ان يكون ماركسيا مؤدلجا باهداف سياسية او مرحلية معينة .
لقد بلغ هادي العلوي في سمو روحه، واصالة تفكيره ، رتبة الفيلسوف الحرّ ، والمتتبع الدقيق لالام الناس وجراحاتهم العميقة ، والمؤاسي لهم بذاته وحياته ، والمشارك لهم بمعاناتهم ، وذلك ما يسمو به الى يكون واحدا من العظماء او الافذاذ .
انّ مشروع هادي العلوي الانساني، ليس منفصلا عن منهجه الديالكتيكي الذي يتحفّز بواسطة ادوات الصراع الطبقي، صراع الذين يملكون كلّ شيء ، والذين لايملكون ايّ شيء .
اراد العلوي ان يعيد تاهيل الفكر الماركسي، ويستعيده من فضاءات الاغتراب، ويحرره من سجون الذاتية، لتغيير شروط الواقع ، وتفكيك علاقات الانتاج الموّلدة لسلطة الاستعباد والتغريب .
الفلسفة في النهج الديالكتيكي - الماركسي ، ليست مفاهيما اغترابية متوحشة ، عن فهم الانسان الشعبي ، ومتعالية عليه . وهادي العلوي يحتج على ثقافة الانديّة، والمؤتمرات الدعائية الفضفاضة والفارغة، التي يهرع اليها المثقفون.
الثقافة والفكر لم يكونا يوما نزهة رومانسية، نعقدها حول طاولة مستديرة، نعاقر فيها الخمر، ونجترّ فيها نظريات الثقافة. الفلسفة، والثقافة، والشيوعية بالذات، نخصّها بين هلالين، يجب ان تكون مواجهة حاسمة ضد القوى الرجعية الطفيلية، من مخدري العقول، وسراق الثروات. ليس امام المثقف والمفكر التقدمي من خيار اخر، غير قضية الفقراء والمهمشين والمحرومين.
ومشروع هادي العلوي، يبدا بمقولة الحرمان اولا. والحرمان ان تمنع نفسك بقوّة الارادة والرغبة الصارمة في العدل والمساواة، عن كلّ ما ترغب فيه النفس من اهواء وشهوات ورغبات دنيئة. تلك الغرائز، التي كانت دافعا اساسيا لخيانة الضمير.
الحريّة لا يمكن ان تتحقق، او تنجز مشروع العدل، دون ان نتحرر، من هيمنة غرائزنا المستكلبة. تلك الغرائز التي تخلق من الضعفاء، ادوات مقرّبة من السلطة. هذا لا يعني ان يكون المثقف والمفكر الماركسي راهبا منقطعا في منسك رهبانيته . بكلّ تاكيد لا. بل علينا ان نبدأ بمؤاسات الاخرين، وتعزيتهم، بانّ يبدو المثقف الماركسي قدوةً لهم، ففي الثقافة والماركسية، قوّة لا يستهان بها، لمن اختارها طريقا له، ولمن امنَ بها عقيدةً، وطريقا للكفاحٍ والنضال.
انّ الوعي الطبقي هو حجر الاساس، في بناء عقل نقدي وثائر ومتوثب لنصرة الثوّار في كلّ مكان من العالم. الصراع ضد قوى الهيمنة والاستغلال، ليست صراعات قومية او دينية بالمرّة، كما انّها ليست حربا ميتافيزيقية بين الخير والشرّ، ذلك ما يروّج له المزيفون والاشرار ومصاصو الدماء، والذين يسعون جاهدين لتزييف حقيقة التاريخ، وتشويه قوانين الاجتماع البشري المادية.
انّ هادي العلوي يرى انّ الثقافة وحدها، لا تستطيع تغيير الواقع، او احداث نقلة في جوهر الانسان الروحي. واذا كانت الفلسفة او الفكر او الثقافة المتداولة في حلقات التداول بين المثقفين قادرة فعلا على تغيير العالم، وتحرير الانسان، اذن لماذا يتهاوى الكثيرُ من المثقفين وبينهم المفكرون ايضا، ليكونوا ادوات رخيصة بيد السلطة الغاشمة، ولماذا يصبحوا عبيدا للمال وللجنس والخمر؟ لقد كان الاولى بالمعرفة والفلسفة ان تطلق سراح المثقفين اولا، وتحررهم من عبودية الانا المتلوثة بالغرائز.
يقول هادي العلوي في نصٍّ حركي مهم: “خذوا الشيوعية من الشارع، قبل ان تاخذوها من الكتب، ولن يؤتمن عليها المثقفون لا الساسة المحترفون، فهي اختصاص من همّهم ايجاد الراحة للخلق لا لأنفسهم، والذين يبيتون في همّ شاغل مع الناس، لا املاء بطونهم (العلوي ، هكذا تكلّم العلوي ، 264 ) .
وهذا ليس غريبا في ثقافتنا او بيئتنا الاجتماعية، لاحظنا كيف مضى الرسول الكريم محمد بن عبدالله الى المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، في بيوت اسريّة متكافلة ومتواشجة، يحمل بعضهم حاجات بعض، حتى ان التاريخ يحدّثنا انّ بعض الانصار والمهاجرين، ممن كانت له زوجتان، عمد الى طلاق احدهما ليقترن بها المؤاخي له ، ان لم تكن له زوجة ، او كان غير قادر على الزواج.
هادي العلوي كان يقرا التاريخ بطريقةٍ ديالكتيكية، نقديّة، لعييد اكتشاف الحقيقة في صلب تاريخنا المغيّب. ووظيفة الفيلسوف بالأساس، هي وظيفة توليدية حرّة وشجاعة.
والعلوي حين يقرا التاريخ، فانما يمارس عمليات التنقيب والحفر، في جذور التراث، والتي فُسرت حتى الان بطرقٍ عشوائية، وسطحية سمجة.
ان العودة الى التراث، ليس بهدف اجتراره على طريقة المفسرين والمحدّثين وخطباء المنابر الفارغين، بل وفقا لمناهج العلماء والمخاطرين بانفسهم لاعادة تاهيل الذات المستلبة والمغتربة والمنفصلة عن واقعها الاجتماعي الجدلي. والماركسية كمنهج علمي ، وقضية مصيرية ، لا نجدها بواسطة النظريات ، ولا يمكن ان نفرضها على الشعب عنوّةً بطريقةِ قيادييّ القمّة ، والذين يصفهم العلوي بالبرجوازيين المتمركسين .
ان الافكار التقدمية نجدها في القاعدة، وفي نضال الطبقة الكادحة. والتجربة الصينية، وثيقة اجتماعية صادمة، لكلّ المشككين بالتجربة الشيوعية الام في انقاذ ما يزيد على المليار من البشر، الذين كانوا يعانون الموت البطيء في الفقر والحرمان الذي فرضه الاستعمار الغربي على الامّة الصينية المكافحة.
اذن ماهو سرّ نجاح التجربة الصينية، وفشل غيرها من التجارب؟ يرى العلوي ان السرّ في ذلك يكمن في روح الشعب الصيني. ذلك الشعب المكافح الذي تلقّى مباديء الفلسفة التاويّة، والتي خلقت من الانسان الصيني انسانا زاهدا، مشاركا لأبناء وطنه في رغيف الخبز، ناكرا لأنانيات الذات الشرهة.
فالفلسفة التاويّة ليست دينا فقهيا رسوميّا متحالفا مع سلطات القمع، وانما كانت تجربةً روحيّة خالصة ونسكية متزهّدة في الحياة، مما مهد القاعدة لنشر مباديء الشيوعية، وتخصيبها في ارادة الامّة الصينية التي صنعت المعجزات.