المركز الإعلامي للحزب الشيوعي العراقي

بالتزامن مع ما يمر به بلدنا من أزمة اقتصادية، مالية ومعيشية وشحة واردات النفط جراء انخفاض أسعاره عالميا وانخفاض انتاجه، وفيما تتضاعف نسب البطالة والجوع والفقر، أقامت اللجنة الثقافية في منتدى بيتنا الثقافي، صباح الخميس الماضي، ندوة نوعية، تناولت ورقتين تخصصيتين حول “الأزمة المالية والرواتب” و”الأزمة الاقتصادية والورقة البيضاء”.

في الورقة الأولى، “الأزمة المالية والرواتب” والتي قدمها الخبير المالي الدكتور ماجد الصوري، أشارت بشكل تفصيلي إلى سياسة الإيرادات والإنفاق بعد عام 2003، فضلا عن الموازنة العامة باعتبارها الأداة الأساسية لتوزيع الدخل، وغياب الشفافية في ظل غياب الحسابات الختامية وتعاظم الإنفاق الاستهلاكي في جميع المجالات.

وطرح الصوري، في رؤيا بحثية من خلال الورقة، مسار الاقتصاد العراقي، واستمرار الإصرار على الإدارة الخاطئة للاقتصاد، والتبذير الكبير في الموارد المالية، وعدم الالتفات بشكل جدي لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد، فضلا عن استعراض تفصيلي، بالأرقام الرسمية، لحسابات موازنة 2020.

وفي الورقة الثانية، “الأزمة الاقتصادية والورقة البيضاء” والتي قدمها الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون، استعرض من خلالها نبذة تاريخية عن الاقتصاد العراقي، انطلاقا من كونه أحد الاقتصادات الواعدة، فضلا عن ما يتمتع به من توازن كبير بين مساحته وعدد سكانه وموارده الطبيعية.

ويوضح أنطون، أن المسارات سارت عكس اتجاه الإعمار والبناء، عن طريق “الاقتصاد الطفيلي” الذي تبنته الأحزاب السياسية الطائفية والقومية والإثنية، وحولت من خلاله أموال العراق إلى خزاناتها الخاصة على حساب التنمية.

وذكر أنطوان أيضا، أن انتكاسات أسعار النفط، في اعوام 2008 و2014 و2019 – 2020، ساهمت هي الأخرى بهذا التراجع، والذي دفع حكومة الكاظمي الى تقديم “الورقة البيضاء” بعد أن دفع الشعب العراقي ثمن المزايا المالية التي تمتعت بها احزاب السلطة.

الخبير الصوري قدم استفاضة بحثية من خلال ورقته الموسومة “ المالية العامة وتوزيع الدخل في العراق” مبينا ما تعانيه عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل في العراق من مشكلة أساسية، تتمثل في عدم عدالتها وعدم شمولها لفئات كبيرة من الشعب العراقي، انطلاقا من المادة الدستورية “النفط ملك للشعب”. باعتبار أن النفط هو المورد الأساس للإيرادات المالية للحكومة العراقية. وكان المفروض استغلال هذه العوائد لخلق قاعدة اقتصادية أساسية يمكن الارتكاز عليها في تقليل النتائج السلبية التي يمكن أن تحصل في حالة انخفاض العوائد النفطية، مع تحقيق العدالة في توزيع الدخل على أفراد الشعب.

سيادة مطلقة للواردات النفطية

ويرى الصوري أن سياسة الإيرادات لموازنات الحكومة العراقية بعد عام 2003، كانت في الغالب، السيادة المطلقة للواردات النفطية على الموارد الاخرى، حيث تبلغ حوالي 96-97 % من الإيرادات العامة، إذا ما اعتبرنا أن الجزء الأكبر من الضرائب يكون مصدرها الواردات النفطية. حيث بلغ إجمالي الايرادات النفطية من عام 2003 وحتى الآن، وحسب المعلومات التي تنشرها شركة سومو والمعلومات الأخرى حوالي ترليون دولار. اما الإيرادات الأخرى فعادة ما يتم تقديرها بأكثر من الإيرادات الفعلية، ونظرا لعدم وجود حسابات ختامية، فلا يمكن معرفة الحجم الحقيقي لإجمالي الإيرادات.

ويضيف الصوري، أن التسيب الكبير في تجميع وضبط الإيرادات غير النفطية، وخصوصا الضريبية، بما فيها المباشرة وغير المباشرة، قد أدى الى ضعف هذه الإيرادات، والسبب الأساس في ذلك تفشي الفساد الإداري والمالي، وعدم تطوير المهنية في هذه الاجهزة، وعدم استخدام البرامج المعلوماتية المتطورة في ضبط الإيرادات والنفقات، وينطبق ذلك على بقية الإيرادات من الرسوم والأجور التي تتقاضاها المؤسسات الخدمية الحكومية، إضافة إلى الأموال الأخرى المتعلقة بتصريف المنتجات وتقديم الخدمات الحكومية الأخرى، مثل أجور الكهرباء والماء وبيع النفط ومنتجاته في السوق الداخلية.

تعمد في اخفاء ارقام الإيرادات والنفقات

ويشير الصوري إلى أن الموازنة العامة للحكومة العراقية الأداة الأساسية لتوزيع الدخل الحكومي، ومن المظاهر الاساسية للموازنة العامة العراقية، هو عدم وجود شفافية في الأرقام، وهناك تعمد في إخفاء الكثير من الأرقام والمعلومات المتعلقة بالإيرادات والنفقات، وخصوصا فيما يتعلق بالإيرادات غير النفطية، فضلا عن عدم وجود حسابات ختامية، وعدم مناقشتها من قبل مجلس النواب، وحتى لو تمت مناقشة بعضها في مجلس النواب، إلا أنه لم يتم نشر نتائج هذا النقاش، ولم يتم نشر الحسابات الختامية حتى لو وجدت.

ويذكر أن تعاظم الإنفاق الاستهلاكي في جميع المجالات، وهي الطريقة التي استخدمت لتفعيل الطلب، دون وجود قاعدة إنتاجية للسلع والخدمات لتغطية هذا الطلب أو العمل على تنميتها. ولذلك تم الاعتماد، وبشكل مقصود، على الاستيرادات. وقامت الحكومات المتعاقبة بإضعاف القاعدة الانتاجية، بسبب المصالح الاقتصادية والسياسية لبعض الفئات المتسلطة، إضافة الى تفشي الفساد الإداري والمالي في جميع أجهزة الدولة، وفي النفقات التشغيلية والاستثمارية. فقد بلغ اجمالي الإيرادات النفطية، من عام 2003 وحتى نهاية شهرتشرين الثاني من عام 2020، حوالي ترليون دولار. عدا الموارد غير النفطية، والمنح، والقروض الداخلية والخارجية، التي تسلمها العراق خلال هذه الفترة والتي تتجاوز مبالغها 300 مليار دولار بكثير. مع العلم أنه لا توجد أي أرقام رسمية منشورة حولها، عدا بعض المصادر الأجنبية.

 أما إجمالي حجم موازنات الحكومة العراقية التي أقرها مجلس النواب، من عام 2004 وحتى عام 2020، عدا الموازنات التكميلية لبعض السنوات، فقد بلغت 1634.2 ترليون دينار، منها 1165.530 ترليون نفقات تشغيلية و468.667 ترليون نفقات استثمارية. إن هذه المبالغ، لو تم استخدامها بشكل رشيد، لاستطاعت أن تنهض بالعراق لتضعه في مصاف الدول المتقدمة والمؤثرة في العلاقات الاقتصادية الدولية.

عملية جراحية كبرى

ويلفت الصوري، أن العراق يمر الآن في ظروف غير مسبوقة، فبالإضافة إلى الصراعات السياسية وسيطرة السلاح المنفلت، وثورة الشباب على الأوضاع التي وصل إليها البلد، وغياب الدور الفعال لمؤسسات السلطة لتلافي التردي في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وبالاضافة الى ذلك، تكالبت المشاكل على العراق بالصراع الدولي على أراضيه وانتشار فيروس كورونا، الذي شل الحركة الاقتصادية والاجتماعية في البلد والعالم، وتدهور أسعار النفط الخام، المورد الأساس لتغطية النفقات الحكومية المتورمة والملتهبة، واستمرار الإصرار على الإدارة الخاطئة للاقتصاد العراقي، والتبذير الكبير في الموارد المالية، وعدم الالتفات بشكل جدي لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد.

كل هذه أدت الى الوصول الى هذه النتائج الكارثية، التي كانت متوقعة وتم التنبيه عليها منذ عام 2005، عن طريق كل الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، بما فيها ما تم وضعه من استراتيجيات متكاملة في جميع المجالات، وبالمشاركة مع منظمات ومؤسسات دولية التجأ اليها العراق للمساعدة.

ان التراكم المستمر لسوء الإدارة المالية والاقتصادية منذ عام 2004 وحتى الآن، قد أدى إلى ما وصلنا اليه، وإلى تفاقم المشاكل إلى درجة كبيرة، لا يمكن السيطرة عليها إلا بإجراء عملية جراحية كبرى للوضع القائم، وباتخاذ إجراءات صارمة يستطيع العراق من بعدها التعافي من الوضع الحالي، ووضع القواعد الاساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لقيادة العراق إلى المستويات العليا التي يستحقها، عن طريق استخدام كل الموارد البشرية والمالية والمادية بإدارة رشيدة متكاملة.

“ورقة بيضاء” تحمل معها تناقضاتها

ويذكر الصوري أن الورقة البيضاء التي قدمتها الحكومة الى البرلمان، رغم جميع التناقضات التي وردت فيها، وبعض الأفكار غير المتكاملة وغير المنسجمة مع الواقع العراقي، إلا أنها اقترحت بعض الحلول الجذرية الآنية والمستقبلية، حيث أكدت الورقة البيضاء التي قدمتها الحكومة الى مجلس النواب، على أن أحد أبواب الإصلاح المالي هو تخفيض نفقات الرواتب من 25% من الناتج المحلي الاجمالي الى 12.5%، ورغم أن هذا المقياس غيردقيق لأنه متغير، إلا أنه يعني حسب الظاهر تخفيض حجم الرواتب بنسبة 50%.

وفي نفس الوقت قدمت اللجنة المالية البرلمانية إلى الحكومة مقترح إعادة النظر بالرواتب والمخصصات والامتيازات للدرجات العليا، من أجل تخفيف العبء على الموازنة، وحل مشكلة العجز فيها، وعدم اللجوء إلى الاقتراض أو تخفيض قيمة الدينار العراقي، ذات الآثار الاجتماعية السيئة إلى درجة كبيرة على الاقتصاد والشعب العراقي، والتي قد تكون كارثية.

وأهم هذه الحلول الآنية هو تقليل النفقات التشغيلية. ومن الممكن تحقيق مثل هذه الخطوة بوقت سريع جدا، مع عدم المساس برواتب المستوى الادنى من الموظفين والمتقاعدين، من الدرجة الرابعة فما دون، إضافة الى التخلص من تعدد الرواتب للشخص الواحد، ومن رواتب الفضائيين. إن تحقيق هذه الخطوات وحدها ستؤدي الى توفير 25-30 ترليون دينار. وسيزداد التوفير في النفقات إذا ما تم تقليص النفقات الخدمية والسلعية وجميع النفقات التشغيلية الاخرى.

وقبل ختام الندوة التي قدمتها الأكاديمية الدكتورة جبرة الطائي، وحضرها الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والرفيق د. صبحي الجميلي عضو المكتب السياسي للحزب، طـُرحت العديد من المداخلات والأسئلة، تناولت غياب الرؤية الاقتصادية الاستراتيجية فضلا عن ضياع عشرات مليارات الدولارات، وضياع فرص ثمينة للتنمية وللانطلاق الفعلي لعملية الإعمار والبناء والاستثمار.