عام 1962 كنت موضوعا تحت مراقبة الشرطة ولمدة سنة كاملة بقرار صدر خريف عام 1961 من قبل المجلس العسكري الثاني. وقد أصر الحاكم العسكري العام ان اقضيها في ناحية العباسية باعتبارها مسقط رأسي رغم علمه بأنني اسكن بغداد ووظيفتي في بغداد واعتقالي عام 1961 كان في بغداد.
استلمت مسؤولية منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ناحية العباسية والتحقت بلجنة ريف قضاء الشامية للحزب المرتبطة بمحلية قضائي الشامية – ابي صخير. خصصت اللجنة أحد اجتماعاتها لدراسة مسألة الري في قضاء الشامية وتنظيمه فهو غير منظم وكانت تهلك مزروعات الاشلاب فيه بسبب العطش وآخر يبقى بورا من غير الممكن زراعته فهو مغمور بالمياه. وارتأت اللجنة ان حل ذلك الاشكال يتم عبر تشييد ناظم قاطع على شط الشامية يتولى تلك المهمة وعليه قررت اللجنة في اجتماعها جمع تواقيع من المزارعين (فلاحين وملاكين) ترفع الى رئاسة الوزراء ومناشدة الزعيم لتخصيص المبالغ الكافة لتشييد الناظم واقرار تشييده.
خلال ايام ونحن نواصل جمع التواقيع على الطلب استدعاني ضابط شرطة العباسية وهو برتبة مفوض شرطة وكان قبل ثورة تموز ضابط امن، وقد نقل بعد الثورة الى سلك الشرطة المحلية، ليتكلم حول جمع التواقيع ويخاطبني بالقول (جاعل نفسك وزير ري واتريد من عبد الكريم قاسم ايسويلك ناظم عالشط) فأجبته حينها (من حق أي مواطن ان يتقدم الى زعامة السلطة بالمقترح الذي يرى فيه فائدة للمجتمع).
بعد فترة اعتقلت مجددا وحكمت بالسجن لمدة ثلاث سنوات. وفي السجن ،وكان حينها سجن الرمادي، تابعت عام 1964 احتفالات جمهورية مصر بافتتاح السد العالي في اسوان وهذا ما جعلني افكر بضرورة ان يكون لدينا سدان خزنيان على اعالي دجلة والفرات الى جانب اقامة النواظم الاروائية على دجلة والفرات وفروعهما وعليه اوليت اهتماما كافيا للمقترح الذي طرحته مجموعة مهندسين يعملون في وزارة الاعمار او مجلس الاعمار وقدمته الى رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف الذي اختير لهذا المنصب اثر سقوط الطائرة الروختر التي كانت تقل رئيس الجمهورية عبد السلام عارف هو ووزير داخليته عبد اللطيف الدراجي فوق اهوار مدينة القرنة ومقتلهما والذي تضمن اقتراح تشييد سدين خزنيين على اعالي دجلة والفرات.
عبد الرحمن عارف اوعز وقتها الى الجهات المعنية لإعلان مناقصة دولية بهذا الخصوص واختيار العطاء الافضل.
كانت أفضل العطاءات العطاء السوفياتي والعطاء الامريكي.
كانت كلفة السدين كما ورد في العطاء الامريكي مائتين وعشرين مليونا من الدنانير العراقية مائة واربعين مليونا لسد الموصل وثمانين مليونا لسد الفرات اما العطاء السوفياتي فكان الافضل، فارتفاع جدار السد في العطاء السوفياتي يزيد على ارتفاع جدار السد في العطاء الامريكي بمتر كامل وربما بزيادة وهذا يعني زيادة في الخزين المائي مقدم السد بمليارات الامتار المكعبة من المياه والتوليد للكهرباء من السدين فيه زيادة بالميغاواتات على العطاء الامريكي. اما الكلفة فكانت اقل بعشرين مليون دينار. وهذا يعني ان العطاء المقبول هو العطاء السوفياتي وهنا كانت الطامة الكبرى كما يقول المثل الشعبي. لقد رفض عبد الرحمن تكليف الاتحاد السوفياتي ببناء السدين وقال كما اشيع في حينه: (اتريدون الروس يملون العراق بالشيوعيين) وهكذا ذهبت جهود المهندسين الذين اقترحوا تشييد ذينك السدين ادراج الرياح.
في 17 تموز 1968 وكما معروف غادر عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية وأصبح البكر رئيسا بديلا عنه وقد سعت السلطة الجديدة الى تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وصلت حد توقيع اتفاقية صداقة وتعاون مع السوفيات وحصل بعض الانفراج في العلاقة مع الحزب الشيوعي العراقي. حيث استوزر الرفيق الدكتور مكرم الطالباني لوزارة الري والرفيق عامر عبد الله وزيرا للدولة. كان من اول انجازات الدكتور مكرم في مجال الري التوقيع عام 1972 على اتفاقية مع السوفيات لتنظيم الري والبزل بين الكفل والشنافية.
آنذاك كانت تصدر في بغداد جريدة الحزب التي تحمل العنوان (الفكر الجديد –بيري نوي) فاستغليت امكانية النشر العلني وعلى صفحات الجريدة ما افكر فيه عن تنظيم الري والبزل في محافظة الديوانية وعن تنظيمه في العراق ككل، ونشرت اواخر عام 1972 مادة حملت العنوان (من اجل تنظيم الري في محافظة الديوانية) اثنيت فيها على الاتفاقية التي وقعها الدكتور مكرم مع السوفيات واوضحت ان كل ما اتفق عليه لحد الان هو مشاريع اروائية وهذا وان كان جيدا لكنه لا يكفي فنحن بحاجة الى انشاء سدين خزنيين على اعالي الفرات ودجلة يحفظان لنا ثروتنا المائية من الهدر ويوفران لنا المياه الزراعية المطلوبة في سنوات الجفاف وشحة المياه الواردة الى العراق عبر الفرات ودجلة.
المقالة نشرت وبقلم مواطن وهذا كما أخبرني الرفيق سلام الناصري (أبو نصير) لاحقا كان بتوصية منه للرفاق محرري صفحات الجريدة. اذ ان النشر باسمي الصريح قد يخلق لي بعض الاشكالات مع المسؤولين الحكوميين نحن في غنى عنها، فهو كان يعرف انني أحد الرفاق العاملين في مجال العلاقات الوطنية.
على كل حال بعد نشر تلك المادة في الجريدة بأقل من اسبوعين استلمت هيئة التحرير تعقيبا عليها من سبع صفحات مرسل من قبل محافظ الديوانية، أطلعني عليه الرفيق سلام الناصري لدى مروري على مقر الجريدة وانا في طريقي الى مقر اللجنة المركزية للحزب في ساحة عقبة بن نافع وقد كلفني الرفيق سلام بأخذ التعقيب معي وأهيئ عليه رداً هادئاً كي ينشر الرد والتعقيب سوية على صفحات الجريدة.
قرأت التعقيب وكان يبدأ بالنص على ان (صاحب المقال انما يسيء الى قيادة الحزب والثورة) فالثورة (التي انجزت كذا وكذا وكذا يصعب عليها تشييد سدين على اعالي الفرات ودجلة).
طبعا ليس صعبا تشييد السدين على بلدنا آنذاك فالعراق بعد تأميم شركات النفط العاملة في العراق عام 1972 ووجود شركة النفط الوطنية التي اسسها الشهيد عبد الكريم قاسم بعد صدور القانون رقم 80 عام 1962 والذي يقضي باسترجاع كافة المساحات غير المنقب فيها وغير المستثمرة باستخراج النفط الخام وتصديره الى الاسواق الدولية والتي بلغت 99,5 في المائة من المساحات المشمولة بامتياز التنقيب، أخذ يستخرج النفط الخام بنفسه وتصديره الى الاسواق الدولية واتذكر ان العراق كان آنذاك يبيع 4 ملايين برميل نفط خام يوميا وباسعار تتراوح بين 28 – 36 دولار امريكي للبرميل الواحد لا يخرج من اثمانها سوى الخمسة بالمائة من اثمان النفط التي خصصها لصدام حسين بمرسوم جمهوري اصدره رئيس الجمهورية آنذاك احمد حسن البكر بعد ان منحه ايضا رتبة عميد في الجيش العراقي.
وقبل ان تنشر الفكر الجديد التعقيب الذي وصلها من محافظ الديوانية والرد الذي كتبته كي ينشر مع التعقيب تغير امتياز جريدة الحزب واصبحت تسمى (طريق الشعب) وعليه لم يكن هناك أي مبرر لان ننشر في (طريق الشعب) تعقيبا على مادة نشرت في الفكر الجديد ولم ينشر وانتهى الامر. ولكن يبدو ان المحافظ بقي في ذهنه ذلك الموضوع وهذا ما اتضح لي من حديث لاحق بيني وبينه.
كانت طريق الشعب قد نشرت لي مادة صحفية عن التعاونيات الزراعية مذيلة باسمي الصريح عصر نفس اليوم الذي نشرت فيه تلك المادة توجهت الى مقر حزب البعث في الديوانية وآنذاك كان المحافظ نفسه امين سر شعبة حزب البعث في الديوانية ورئيس لجنة الجبهة التي كنت والرفيق الراحل عبد الامير ناصر الجميلي نمثل فيها منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الديوانية وما ان دخلت الغرفة التي نلتقي معه فيها وشاهدني حتى بادر بالقول (قرأت ما نشر اليوم ومن اسلوبه اتضح لي انك صاحب ما نشر سابقا) فأجبته متسائلا (تقصد موضوع الري) قال (نعم) قلت (فلنتحدث بهذا الموضوع يا ابا عمار) الموضوع كان يقترح انشاء سدين خزنيين على اعالي الفرات ودجلة. طيب قرار تشييد السدين يكون من السيد محافظ الديوانية ام الحكومة المركزية؟ قال (الحكومة المركزية طبعا) قلت طيب والصرف على انشاء السدين يكون من خزينة المحافظة ام من الخزينة المركزية اجاب (الخزينة المركزية طبعا) قلت إذا لم يكن هناك مبررا ان تزج نفسك في الموضوع.
المحافظ سكت ولم يعقب على كلامي. الذي تكلم محمد زمام الذي كان حينها عضوا في قيادة الشعبة وعضوا في لجنة الجبهة اذ توجه الى المحافظ بالسؤال؟ سمعت ماذا يقول؟ انه يقول لك (سكر الفم) ووضع يده على فمه واضاف (وزير الري صاحبه، ما اتخليه يتلاطش وي صاحبه) وانتهى الامر.

عرض مقالات: