أبن الصريفة والفانوس، الشهيد البطل حميد عاتي
يمر شريط الذكريات، لأستذكار إنسان كتب له أن يعيش من أجل قضية وفكر تقدمي ويستشهد من أجلهما، وليقدم روحه قربانا من أجل ما وعد به حزبه الذي تربى فيه ونذر حياته من أجل وطن حر وشعب سعيد.
كنت صغيراً أذهب مع والدي الذي كان يعمل مصلح ساعات في وسط العشار، وكان المحل في بداية الشارع وبجانبه صدلية مشهورة آنذاك "صيدلية الشعب"، لصاحبها الفقيد عبد الرزاق كبة.
كان هنالك رجل فقير، ضعيف البنية، قصير القامة أسمر البشرة ووجهه عريض مملوء رأسه بالشعر الأسود المجعد، ذا حواجب كثة، وشارب غليظ، وعيون صغيرة غائرة، وقد أتعبه الزمن وحفر في وجهه علامات وعلامات، أراه كل يوم يأتي مثقل الخطى متعبا، يرتدي قميصاً قديماً أزرق اللون، وبنطرونا قهوائيا ونعلا قديما، يؤدي التحية ويخرج عدة عمله وهي مجموعة من الأدوات يحفظها عند والدي في المحل مساءً ويستلمها صباحاً، ثم يفترش الأرض قرب محل والدي، ويقوم بوضع الكتب والجرائد والمجلات على الحائط في رفوف خشبية، وأدواته الخيوط والأبر والصمغ الذي يعده بنفسه، وصندوق صغير يجلس عليه، ويقوم بتجليد الكتب، ولديه آلة ثقيلة خاصة من طابقين من الحديد لكبس الكتب بعد تجليدها، وكان ماهراً في تجليد الكتب القديمة والحديثة.
عند المساء يغلق الصندوق الخشبي بالحائط بسلسلة حديدية، ولديه صحن (طاسة)، يعمل فيها الصمغ من مسحوق يخلطه مع الماء، ويخيط الكتب من بكرة خاصة ملونة، كنت أرقبه وأحترمه كثيراً، وأحياناً أساعده في نقل حاجاته من والى محل والدي.
يبدأ أولاً في تدخين السيكاير مع شرب أستكان الشاي، وتعامله بسيط مع الناس والجميع يمر ويلقي التحية عليه، فهو محبوب من الجميع هنا، وكذلك من المثقفين والأساتذة.
كان حميد عاتي فقيراً لكنه غنياً في كل شيء بحب الناس، وسلوكه الطيب معهم والمتسامح كذلك، حدث مرة أن ذهب لقضاء حاجة وجاء شاب بعمر 17 سنة وقد شاهدته يسرق مجلة من مجلاته (مجلة سمير المصرية)، وهرب، وعندما جاء أخبرته وذهبت معه للشاب الذي كان داخل محل (باتا للأحذية)، فتحدث معه بأدب وأحترام وقال له، لطفا هذه المجلة ليس لك، فأرجوك أعدها لي، فأخذها منه بهدوء ونصحه بعدم تكرار ذلك، وعندما عدنا سألته لماذا لم تصفعه على فعلته..؟، فأجابني أريده أن يتعلم ولا يكرر الخطأ.
وأصبح هذا الشاب بعد سنوات معلماً، وذكرته به، ففرح وأوقد سيكارة، وهكذا كان يقدم المساعدة والعون للجميع من حوله، كان من أصدقائه الذين يمرون لتحيته الأديب محمود عبد الوهاب البريكان.
عاش في حي فقير (محلة الصرايف)، بني من القصب، لا ماء ولا كهرباء، مع أمه، كان أبي يحبه ويحترمه، وشجعه على الزواج، وقدم له يد العون مع مجموعة من أصحاب المحلات المجاورة، وكان لأبي صديق عنده أخت فطلب منه أن يزوجها لحميد، فوافق وتزوجا وأصبح لديه ثلاث بنات أكبرهن السيدة ماجدة.
نراه دائماً حزيناً متألماً ويحمل هموما، كانت هي هموم الوطن والشعب العراقي، لاحظنا غيابه مراراً ثم يعود بعد غياب، وهو بحالة يرثى لها، لا يستطيع المشي وآثار الجروح على جسده، وعرفنا أن ذلك جراء التعذيب المبرح الذي يتعرض له عند كل أعتقال من قبل الجهات الأمنية والسلطات المجرمة، لقد أتعبه الزمن وتعرض للأهانات من رجال الأمن، لكنه يأتي ليواصل عمله وكذلك نشاطه السياسي السري في صفوف حزبه الشيوعي بصبر وتحدي كبيران.
وهكذا يوقد سيكارة اللف التي أشتريها له من سوق هرج بالعشار، ويتناول الخبز والطماطة ويرتشف الشاي، وهكذا كنا نعرف أنه عندما يغيب يعني أنه في المعتقل عند الأمن، وفي أحد المرات كلمه والدي ناصحاً له ((حميد ماذا تريد بالضبط وتتحمل كل هذا العذاب،...)، فكان يجيب بقوة وعزم وشموخ، هذا شيءء بسيط أبو سمير، الفرج قريب ونرتاح، ويؤكد على أصراره على المضي بنضاله.
وأثناء الهجمة الجبانة على الحزب الشيوعي في 1978م، تعرض هو الى الملاحقة، وآخر مرة كان جالس عصراً يعمل بتجليد الكتب، جاءت شلة من رجال الأمن وقفوا أمامه وقيدوا يديه وشدو عينيه وأخذوه، وقال لي آخر كلمة (سمير أجمع الأغراض وأحفظها بالمحل)، كانت هذه آخر مرة نراه، فلم يعد بعدها.
سمعنا بعد فترة أنه تعرض للتعذيب القاسي، وأستشهد تحت التعذيب، لقد قتلوه ووضعوه في كيس (كونيه) ورموه أمام الصريفة التي كان يعيش فيها.
هكذا غادرنا حميد بصمت وبدون وداع، ترك لنا ذكريات كبيرة، وحزنا عميقا لا يندمل، غادرنا وهو بطل رسم أسمى صور التضحية والعطاء، تظل ذكراه خالدة في قلوبنا.