إلحاقا بالحلقات التي كتبتها والتي كنت أنشرها تحت هذا الأسم ابتداء من نهاية عام ،2011 وجدت من المفيد العودة إلى الوراء وتدوين بعض ما لم يجر التطرق إليه من قبل ، حول تشكيل مجموعة أنصارية في هضبة ختارة ودوغات وثم محطات الالتحاق المتعددة بأول قاعدة انصارية في ناوه زه نك في عام 1978 .
البدايات ..الحملة والاختفاء
مرة أخرى حملنا أنفسنا وبعض حاجياتنا الشخصية البسيطة لشابين قرويين ، تاركين وراءنا ما لنا من أشياء جميلة ومقاعدنا الدراسية وأصدقاءنا وأهلنا وأحبتنا وذكرياتنا ودراجاتنا الهوائية التي كنا نستخدمها في التنقل بين قرية دوغات وثانوية الطليعة في تللسقف في الأيام الغير ممطرة حاملين معنا لكل واحد منا طالبة من عوائلنا من اللواتي كن يدرسن في ثانوية الطليعة ، تركنا محطات قرية دوغات السرية التي كانت بالنسبة لنا نحن مجموعة من الشباب تجربة غنية في ممارسة العمل الحزبي السري مستمدين عزمنا من تجارب قرأناها في بطون الكتب رغم ضعف إلمامنا باللغة العربية ، كان كل واحد منا يجد لنفسه دورا لأحد من مناضلي العمل السري ويعمل كل ما في وسعه على أداء دورا يليق بلقبه الشيوعي ، تركنا لقاءات مخابيء الكند السرية التي حملت راية انطلاقة جديدة في زمن جديد ، انطلاقة ملؤها الحماس والاندفاع والثأر لما أقترفه نظام البعث من حملة شنيعة ضد الشيوعيين في كل أرجاء العراق وانتزاع البراءات من الآلاف منهم وتدشين مرحلة جديدة من تبعيث المجتمع باستخدام كل وسائل القمع والترهيب ، وحرب شاملة على كل الرافضين لنهج النظام في إدارة الدولة والذي تحول عبر سلسلة من الممارسات إلى دكتاتورية قذرة تفرد بها في الأخير شخص صدام وأسرته .
نعم تركنا كل شيء وتوجهنا مرة أخرى إلى بغداد ، فكان سفرنا إليها في هذه المرة أيضا يسيرا لم تعترضه عوائق أو مشاكل من أي نوع ، إذ سارت الأمور بسهولة ، حتى وصلنا إليها أنا مع صديقي الدائم الرفيق عادل ( سعيد أطوشي ) وذلك في ديسمبر من عام 1978 . لم نكن نعلم شيئا عن مصيرنا ووجهتنا ، هل ستكون بغداد محطة اختفاءئنا الدائمة أم ستقودنا الأيام إلى مرحلة أخرى كنا نحلم بها في أيامنا التي كنا فيها أمام تحديات تبلور شخصية كل واحد فينا ..؟ عموما كان هناك شعور عام لدينا من أن رحلتنا ستكون طويلة ومعقدة ومحفوفة بالمخاطر وهي رحلة تحد ستكلفنا كثيرا ، إذن كان علينا أن ننتظر مجيء وقتها المناسب سواء طال أم قصر .
انظم إلينا وقتذاك بعد وصولنا إلى بغداد مباشرة ، كامل حسين صديق الطفولة وأيام الشباب ورفيق العمل السري منذ أيام مطاردة منظماتنا في المنطقة من قبل حدك ( طبعا لم نكن نعرف وقتذاك ما هو الحزب وما هي المنظمات ) أو عندما كانت قوات الجيش تقتحم قرانا بحثا عن الثوار الكورد أو الهاربين من الجيش أو مهربي البضائع بين جنوب مناطقنا وشمالها ، كانت مهمتنا آنذاك ونحن كنا لم نزل في العقد الأول من أعمارنا هي نقل البريد الحزبي من بيت إلى بيت إلى آخر أو من رفيق إلى رفيق آخر هذا البريد الذي لم نكن نعرف عنه وعن خطورته شيئا ، أو إخفاء الكتب والاوراق التي لم نكن نعرف ما في بطونها ، وخصوصا كنا في السنوات الأولى من الدراسة الابتدائية ناهيك عن عدم معرفتنا الكاملة باللغة العربية حيث كنا نستطيع قراءة نصوصها البسيطة ولكننا لم نكن نفهم منها شيئا ، ترعرعنا أنا و صديقي كامل سوية في عائلتين أرتبطتا فيما بينهما منذ وقت مبكر بعلاقات وطيدة حتى وجدتا نفسيهما منخرطتين في صفوف الحزب وأصبحتا أمام تحديات ومصاعب جمة قل نظيرها من تشرد وملاحقة مستمرة من كلا الطرفين ، الحكومة المركزية و تفوق قوات حدك ومفارزه وسيطرتها على قرانا ، و مما يذكر إن كامل توفي في السنوات الأخيرة أثر مرض طاريء بعد عودته من بريطانيا لكي يعيش حياته في قريته ختارة الكبيرة .
البقاء هناك في بغداد لفترة طويلة أم لفترة قصيرة كان يتطلب عملا نرتزق منه ويساعدنا على إدارة حياتنا اليومية وتغطية تكاليف المعيشة للبقاء هناك ومقاومة المصاعب التي قد تواجهنا تحسبا للفترة التي ستجبرنا على المكوث فيها انتظارا لما ستؤول إليه الأمور ، ومعروف أن مستلزمات العيش وإيجاد مأوى للسكن في العاصمة لابد أن تكون مكلفة ، وخصوصا قد يكون هناك رفاق لا يستطيعون الحصول على عمل ، فكان لابد أن نتكفل بما يساهم على التخفيف عنهم وبما نستطيع مساعدتهم في مجال توفير السكن على الأقل . ولذلك فإن أول خطوة خطوناها للتغلب على هذا الهم هو اتصالنا ببعض المعارف والرفاق العاملين هناك ، فلم نعاني في هذا المجال من صعوبات تذكر ، لأننا في المرة الأولى عند زيارتنا لبغداد عرفنا إن رفيقين لنا وهما الفقيد بيبو محمود ( أبو حسين ) وأخوه قاسم ( أبو صباح ) يعملان في حانة للبيرة تقع في شارع أبي تمام مقابل حديقة الأمة اسمها بوفية رمزي . فاستعجلنا اللقاء بهما ، وعرضنا عليهما استعدادنا للعمل في هذه الحانة ولم يمض وقت طويل حتى جاءت موافقة السيد رمزي صاحب المحل ، على أن اعمل أنا مع أبو صباح في البوفيه وأن يعمل سعيد في الفندق الذي كان يقع جنب البار وأسمه كان فندق رمزي أيضا ، وهكذا لم تعد أمامنا معضلة السكن وتأمين مصاريفنا فتحققت الأمور كما أردنا . لم يبق أبو حسين كثيرا في بغداد بعد أن بدأنا العمل عندهم في الحانة ، إذ غادرها بعد أيام قليلة متوجها إلى دوغات وهناك ووفقا للمعلومات التي توفرت لدينا فيما بعد والتي أشارت إلى أنه أنظم إلى العديد من الشيوعيين الذين قدموا براءتهم من الحزب أمام السلطات ، ولكنه حافظ على أسراره ومن بين هذه الأسرار هو معرفته بسر وجود غالبيتنا في بغداد . ولأجل تلافي مشكلة الفقيد كامل الذي لم نستطع أن نجد له عملا بسهولة بعد أن امضينا وقتا هناك ، عرضت على السيد رمزي تشغيله في نفس البار ، وفي هذه المرة أيضا لم يتردد الرجل على الموافقة الفورية على طلبي .
ورمزي صاحب (بوفية رمزي وفندق رمزي ) كان رجلا مسيحيا طيبا وشجاعا وذو أخلاق عالية ، وثق بنا كثيرا و تبين على مر الأيام بأن له أخت تعمل في خدمات القصر الجمهوري ، وعندما عرف عن طريق الصدفة أو ربما عرف منذ الأيام الأولى من مجيئنا إلى محله والتي زادت عن 3 شهور بأننا شيوعيين وهاربين من الملاحقة في مناطقنا ، كان يشجعنا على مواصلة البقاء عنده وكان يقول لاتخافوا فأنا أستطيع تأمين حياتكم مهما طال الزمن ، وكان لرمزي أخ مسجون لا أتذكر سبب سجنه ولكنه لم يكن سببا سياسيا ، بعد فترة قصيرة من ذلك الوقت خرج من السجن وتردد إلى المحل لأكثر من مرة ، كان أخوه بعكسه حاد المزاج والطباع و كان يتصرف كالأشقياء ، كان رمزي يشكو منه ومن مشاكله الكثيرة ولكنه كان يحبه في نفس الوقت لأنه كان مسؤولا عنه باعتباره أخاه الأكبر .
منذ الأيام الأولى من العمل لديه طلب مني السيد رمزي المبيت في الفندق بعد انتهاء العمل في وقت متأخر من الليل ولكنني رجوته أن أرتب مكان نومي في البوفيه وطلبت منه تزويدنا بأكثر من فراشين من الفندق وبهذا سيكون الأمر أسهل وسنضمن في نفس الوقت أمن البوفيه ليلا من أية محاولة لسرقته ، استحسن الرجل فكرتي ووافق دون تردد وقال كما تريد ، في الحقيقة لم يكن هدفنا الرئيس أنا مع أبو صباح وكامل من المبيت في البوفيه هو حراسته ، بل كان من أجل توفير مكان مبيت لعدد آخر من الرفاق الذين يلجأوون إلينا ليلا بعد انتهاء العمل . وكان الرفيق الشهيد ( جوقي سعدون ) أبو فؤاد زائرنا اليومي وأحيانا كان يأتي معه الرفيق الشهيد (علي خليل ) أبو ماجد ، إذ كانا يصلان إلى المحل في وقت متأخر من الليل بعد أن يتوقف الكاسيت الذي يبث صوت أم كلثوم وأغانيها وألحانها الجميلة التي تملأ الحانة طربا وبهجة وسرورا وتزيد من استهلاك البيرة ، ويغادرونه في الصباح الباكر قبل بدء العمل في اليوم التالي ومجيء زبائن البار وقبل أن يتصاعد صوت سعدي البياتي ومواويله من مكبرات الصوت المنتشرة في كل زوايا الحانة والتي كانت تطرب الزبائن وهم يستمعون إليه لساعات طويلة وينضمون إلى صوته الشجي والغناء معه ، مع حركات راقصة وأصوات دق الأصابع ودقات خفيفة على الطاولات وهم يقابلون زجاجات البيرة التي تملأ طاولاتهم ( فريدة وشهرزاد وأمستل ولؤلؤة ) ومقبلاتهم المحببة من الفستق واللبلبي ، ولم يكن الرفيقان أبو فؤاد وأبو ماجد وحدهما يترددان على المحل فقد كان هناك آخرون يترددون أيضا بين فترة وأخرى .
كان لأبي حسين وأبي صباح أصدقاء من مناطقنا ممن يدرسون في بغداد أو يؤدون الخدمة العسكرية هناك أو يعملون في باراتها أو أفرانها أو بقية مجالات العمل وهم يأتون لزيارتهم في المحل بين فترة وأخرى ، ففي أحدى هذه المرات دخل علينا رجل أسمر بملابسه العسكرية وعلى كتفيه شارات ونجمات ، لازلت لا أميز بين الرتب العسكرية المختلفة ولا أعرف رتب أصحابها العسكرية ، عند دخوله في بداية الأمر شعرت بالخوف وعدم الطمأنينة ولكنه عندما حيانا باللغة الكوردية هدأ روعي قليلا وأطمأنت روحي ، فسألت أبو صباح من يكون هذا العسكري ..؟ قال لي لا تخف عندما وجدني مرتبكا ، إنه أبو حميد (بيرحسين مرعان) وهو ضابط أو طالب في كلية الطيران و(كريفنا ) من الشيخان ، فقلت بيني وبين نفسي إذن فإن الآمر لا يستدعي خوفا ، وبعد دقائق من دخوله جلسنا على طاولة نتناول شايا وتناولنا في نفس الوقت أطراف الحديث فدخلنا في أحاديث لامست بعض السياسة وأبو حميد اصبح يستفزنا بأسئلة معينة يريد منها معرفة حقيقتنا ، ولما كانت أجوبتنا تذهب باتجاه معين قال ها والله كنت أعرف إنكم شيوعيون ما دمتم من دوغات .. ولكنه أستدرك قائلا لا تخافوا أنتم في أمان وأنا لست من الذين يغدرون وإن أحتجتم شيئا فأنا يمكنني مساعدتكم .
كانت مكتبة الطريق الواقعة في شارع السعدون لا زالت مفتوحة تبيع الكتب ومنشورات الحزب بما فيها طريق الشعب التي كان صدورها مستمرا ، قررت وبعد أن استقرت أوضاعنا أن أذهب يوميا لشراء الجريدة ولكن الرفيق الذي كان يعمل في المكتبة وبخني في المرة الثانية دون أن يعرف هويتي وقال بصوت خافت لا تتردد إلى هنا من أجل الجريدة فالمكان مراقب ، كان الرجل ذا جسم ضخم يتحرك بصعوبة من وراء طاولة كانت منتصبة في نهاية المكتبة ، عرفت فيما بعد إن اسمه نوزاد وإنه كوردي من السليمانية ، امتثلت لنصيحته وامتنعت عن التردد إلى المكتبة وبحثت عن بائع آخر للجريدة ، فوجدت واحدا في بداية شارع السعدون في الركن المقابل لجسر الجمهورية وهو يفرش بضاعته من الجرائد والمجلات على رصيف ذلك الركن ، كنت أذهب إليه كل صباح وبحركة سريعة أمد يدي على جريدة طريق الشعب وأضعها بين صفحات جريدة الثورة البعثية وأدفع ثمن جريدتين وكان على الغالب بائع الجرائد لا يعرف ماذا كانت الجريدة الثانية ، وهكذا سارت الأمور دون مشاكل ، و في المحل كنت أضع الجريدة في الجرار الذي كنت أحتفظ فيه بإيرادات المحل وأثمان ما نبيعه من البيرة والمقبلات حتى أنتهي من قراءتها أنا والمرحوم كامل وأبو صباح قبل أن يترك الأخير بغداد هو الآخر ، وكان من الطبيعي عندما يأتي صاحب المحل السيد رمزي إلى البار أن يجلس على ذات الكرسي ويفتح الجرار لعد النقود وجرد الحساب ومراجعته وكان هذا يحصل كل أسبوع أو عشرة أيام أو احيانا أقل ، وذات يوم كانت جريدتي في الجرار ولم أكن قد انتهيت من قراءتها ، فجاء رمزي وذهب إلى مكانه المعتاد وعندما فرغت من تهيئة طلبات زبون عدت إلى البار لإعادة ما تبقى له من نقود فوجدت السيد رمزي يقرأ بجريدتي الأمر الذي أصابني بخوف شديد خشية أن يكون للأمر عواقب ويبلغ عنا لدى السلطات وإنه ربما أكتشف أمرنا للتو ، ولكنه لما وجدني مرتبكا عمل على تهدئتي وقال لا تهتم أنا أعرف بقصة الجريدة من أيامها الأولى وكنت أقرأها وأنت تعمل بين الزبائن ... لا تخف مني فسرك مصان ولا تقطع عن الجريدة ، بعد هذا صرنا نشعر بأمان أكثر في المحل ولم نكن نشعر بالقلق عندما كان السيد رمزي يتردد إلى المحل ومعنا عدد من الرفاق .
أصبحت حياتنا شبه طبيعية هناك وكثر عدد الرفاق من مناطقنا في بغداد والمدن القريبة منها ، فكان ابو داوود والفقيد أبو حربي يعيشان في شقة سكنية في حي الشعب وأبو زكي والمرحوم أخي ألياس (ياسين ) يعيشان في منطقة أخرى من بغداد لا أتذكرها وهادي ( آودي حسن ) يعمل ويعيش في المحمودية ويتردد إلى بغداد أثناء بعض اللقاءات وعمي الفقيد شمدين وآخي الأكبر الفقيد درويش وأخي الفقيد علي ( هشام ) والفقيد كريم درويش (حمه ) وعيدو قاسم الذي ترك الحزب بعد التحاقنا والرفيق عيدو أبراهيم سعدون والرفيق علي أبراهيم سعدون والرفيق الشهيد شمو سليمان سعدون (شاكر) والفقيد عيدو مراد ( مختار) والشهيد بيبو قوجي ( أبو حازم) ورفاق آخرون كثيرون يؤسفني لا أتذكر أسماءهم كانوا يتوزعون في مناطق بغداد المختلفة والمدن القريبة منها .
بعد فترة من التواجد والعمل هناك في بغداد وذلك بقرار من الحزب غادرنا سعيد أطوشي إلى الموصل للاختفاء داخل مقر محلية نينوى وحمايته مع الرفيق أبو خدر الذي كان نزيلا دائما في المقر بسبب ملاحقته الدائمة من السلطات في سنجار. أنتظمت الزيارات بيننا مع الحفاظ على سريتها واستخدام شفرات معينة عند التحدث إلى بعضنا البعض أثناء المكالمات الهاتفية وما إلى ذلك من أسباب الصيانة ، وبدأت تتوارد أو تصل إلى أسماعنا بعض المعلومات المختصرة عن انتقال بعض رفاقنا من قرى ومدن كورستان إلى المناطق الحدودية والبدء ببناء مقرات أنصارية ، فصرنا نعيش على أمل استلام توجيهات من الحزب للالتحاق بتلك المقرات الأنصارية .