إعداد وترجمة: محمد توفيق علي

أرسل المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاثام هاوس" في لندن في الآونة الأخيرة نشرتها لشهر آذار بعنوان الولايات المتحدة والقارتان الأمريكيتان والأوضاع في العالَم، عبر"تشاثام هاوس"، تضمنت سلسلة من الندوات ومجموعة من المقالات. وخصصت قسما مكرسا للكتابة عن وباء كوفيد – 19على صفحات موقعها على شبكة الانترنت. أدناه ترجمتي للمقالة المعنونة أعلاه. وهي من تأليف الأكاديمي ايفان ريسنك، استاذ مساعد في كلية الدراسات الدولية بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، وذلك بتاريخ 17 آذار(مارس) الماضي. ويناقش فيها العصر الجديد للمنافسة بين القوى العظمى.

هنالك شعور متزايد من بين صانعي القرار في السياسة الخارجية ومحللي الأمن الوطني بأن عصر ما بعد الحرب الباردة، الذي اتسم بهيمنة الولايات المتحدة بدون منازع، يجري حل محله بفترة جديدة واكثر خطورة في المنافسة بين القوى العظمى. ولا غرابة في أن هذا الاعتقاد أعاد الحياة لحوار قديم عن مناطق النفوذ للقوى العظمى. أبدت ادارات الرئاسات الثلاثة الأخيرة معارضتها الشديدة للظاهرة. عقب احتلال روسيا لجورجيا، صرّحت كونداليزا رايس، وزيرة خارجية الرئيس جورج دبليو بوش بأن الولايات المتحدة سوف "تعارض اي محاولة روسية لإخضاع امم ذات سيادة وشعوب حرّة، لمناطق نفوذ عفى عليها الزمن ". وعقب احتلال روسيا لمنطقة البلقان في العام 2014، الرئيس براك اوباما حذر موسكو بالتصريح " ان عصر الامبراطوريات و مناطق النفوذ عفى عليه الزمن. ينبغي عدم السماح للدول الكبرى اذلال الدول الصغرى أو فرض اراداتها عبر أفواه البنادق". وكذلك استجاب اوباما للاستفزازات العسكرية للصين ضد المنافسين المطالبين بالمناطق البحرية المجاورة، بالتصريح  لاحقا في تلك السنة بأن النظام الأمني في شرق آسيا سوف لن يعتمد على اساس "مناطق النفوذ والإرغام أو الاذلال". وحتى ادارة ترامب التي مارست سياسة خارجية أكثر سلبية وعابرة للحدود الدولية من ادارتي بوش و اوباما، تخلت عن مناطق النفوذ للصراعات بين القوى العظمى. وفي العام 2017 نعتت استراتيجية الأمن الوطني للبيت الأبيض، نعتت بكل صراحة كلا من روسيا والصين بعبارة “قوى تحريفية" حذرت بأن الصين تريد “إعادة ترتيب المنطقة (المحيط الهادي - الهندي) لصلحها". بينما روسيا “تريد استرجاع مكانتها كقوة عظمى وتأسيس مناطق النفوذ بالقرب من حدودها". وكما أدلى المؤرخان هال براندس وتشارلس ايدل في الآونة الأخيرة في مقالة في مجلة "كومينتري"(التعليق)"لفترة أطول من قرنين، عارض القادة الأمريكيون بصورة عامة فكرة عالَم مقسم الى مناطق نفوذ  متنافسة وبذلوا قصارى جهودهم لمنع القوى الاخرى من مناطق نفوذ هم". وبخلاف موقف هذين المعارضين وآخرين لهذه الفكرة، يوجد مؤيدون لها يلاحظون نفاق واشنطن في فرض تبعية مناطق النفوذ لها في السابق. ويحاورون بأن امتداد مناطق النفوذ لروسيا والصين سوف يتجنب اندلاع حروب مكلفة جدا وغير ضرورية ضد هاتين الدولتين. بينما المؤيدون على صواب بأن مناطق النفوذ لعبت دورا حاسما في استقرار سياسة القوى العظمى، الا انهم على خطأ في الاعتقاد بأن مناطق النفوذ ممكنة الانجاز في سياق علاقات الولايات المتحدة الحالية مع الصين وروسيا. يعزى ذلك الى كون التشابه العقائدي بين الدول أحيانا يتدخل في الحسابات السياسية العالمية المنفصلة عنه، التي ينبغي أن تتخذها من أجل تأسيس وصيانة مناطق النفوذ. تتولد مناطق النفوذ عندما تسمح قوة عظمى لأخرى منازعة لها بالسيطرة عسكريا على منطقة معينة التي فيها مصالح هامة أقل للأولى مما هي للثانية. مناطق النفوذ تهدّئ المنافسة بين القوى العظمى بثلاث وسائل. أولها واهمها هي ان بتوسيعها للمنازعين تتحاشى القوى العظمى التورط في فخ حروب ثانوية التي من غير المحتمل انتصارها على منازعيها الذين لهم مصالح هامة ومستعدون لتقبل خسائر اكبر من اجل الانتصار. وثانيا بما أن الدول مرارا ترتكب العدوان بسبب غياب الأمن وليس الطمع. ان الحصول على منطقة نفوذ لمصالحها الهامة يحسّن استتباب  الأمن ويقلل عدوانية المسيطر عليها. وثالثا ان اتفاقيات مناطق النفوذ تسمح لكلا الطرفين، المانح والمستلم، تعبير احدهما للآخر عن حسن نواياه. اذ بتأسيس المنطقة، يعبّر الطرف  المانح عن انعدام  نوايا الطمع في المصالح الرئيسية للطرف المستلم ووطنه. وبالتخلي عن التوسع العسكري خارج المنطقة، يعبّر الطرف المستلم عن ذات الموقف تجاه الطرف المانح. ولهذه الأسباب باتت مناطق النفوذ علامة فارقة للعلاقات بين القوى العظمى منذ العام 509 قبل الميلاد على الأقل. اذ عقدت اتفاقية بين الرومان و قرطاج التي بموجبها منعت السفن الرومانية التقرب من المياه الاقليمية لكارثيغ، وحرمت قوات كارثيغ من شن هجومات على القصبات الموالية للرومان. وهكذا أصبحت بنودا ثابتة في السياسة الخارجية الاوربية خلال عقود السنوات عقب تبني وزير خارجية روسيا، الكساندر غورجكوف، في العام 1869 ضمن  رسالته الى وزير خارجية بريطانيا، لورد كلارندن، تعهد فيها باطمئنان لندن بان افغانستان تقع “كليا خارج منطقة النفوذ التي لربما تكلف روسيا لممارسة نفوذها". ورغم ادانة الظاهرة المتتالية في خطاب رؤساء الولايات المتحدة، فانهم أحيانا طالبوا بتحديد مناطق النفوذ للولايات المتحدة. وحدث أكثرها شهرة في العام 1823 ضمن فكرة مونرو التي طالبت من اوربا احترام هيمنة الولايات المتحدة على نصف الكرة الأرضية الغربية. ومنحوا على مضض مناطق النفوذ لخصومهم، كما تجسد لإدارات الرئاسة خلال الحرب الباردة في رفضها المتواصل لتعديل خطابها ازاء الادلاء بعبارة “تحرير"  اوربا الشرقية من براثن السوفيات. وعلى اي حال، كما أثبتتها الحرب الباردة. يمكن التآمر على مناطق النفوذ عندما تسمح القوى العظمى للاعتبارات العقائدية أن تطغي على الاعتبارات السياسية العالمية. لتأسيس منطقة نفوذ وصيانتها لاحقا، ينبغي على  الطرف  المانح بالترشيح الاقرار بأنه يميل اقل من الطرف المستلم بالترشيح في الهيمنة على منطقة معينة. في كتابه الموسوم المصادر العقائدية لسياسة القوى العظمى  1989 - 1789 يقول خبير العلوم السياسية "عندما يدرك قادة دول مختلفة التزامهم بذات الأهداف العقائدية ولهم ذات الأعداء العقائديين، ينحاز الواحد منهم الى الآخر اعتقادا بانتمائه اقرب الى هويته السياسية من أصحاب القرار الذين لا تتوفر فيهم هذه الظروف ". هذه الالفة القوية يمكن أن تفرض على القوة العظمى المبالغة المفرطة في أهمية الدولة الصغرى، الأمر الذي يزيد من مخاطر التورط في فخ حرب كبرى ضد منازعها. هكذا تولدت أزمة الصواريخ في كوبا في العام 1962، التي دفعت العالَم صوب هاوية اشعال حرب ابادة نووية لا مثيل لها قَبل ومنذ ذلك الحين. خلال الفترة الاولى من الحرب الباردة لم تهتم موسكو الا قليلا بأمريكا اللاتينية. وفي البداية لم يستجيب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف ل فيديل كاسترو عقب تولي حركة 26 تموز الحكم في هافانا في العام 1959 . بعد ان اقتنع خروتشوف بأن كاسترو شيوعي حقيقي، بدأ بالبت في احتمال نجاح محاولات الولايات المتحدة المكثفة للإطاحة بالنجم الكوبي سوف "تكون ضربة موجعة للماركسية – اللينينية وسوف ينزّل من مكانتها في أنحاء العالَم ". هذا الاعتقاد الخطر فرض على خروتشوف الاقدام على مجازفة استخدام عشرات الأسلحة النووية الاستراتيجية والتكتيكية في جزيرة مهدَدة بالحرب والواقعة في البحر الكاريبي على بُعد مجرد 90 ميل (150كم) من ساحل فلوريدا (شرق أمريكا). وبخلاف ذلك، عندما تعرضت الحكومتان الشيوعيتان الاصلاحيتان في هنغاريا في العام 1956 وفي جيكوسلوفاكيا في العام 1968، الى الاحتلال من قِبل الجيش الأحمر السوفياتي، فان انعدام الالفة العقائدية مع  أصحاب القرار في الولايات المتحدة، برّر عدم تدخل أمريكا عسكريا نيابة عنهما. بينما عندما انسحب الحكم الشيوعي الاستبدادي في يوغوسلافيا والصين من النفوذ السوفياتي في أواخر عقد 1940 وأوائل  عقد 1960 على التوالي، كانت استجابة الولايات المتحدة في كلتا الحالتين حذرة أيضا. ولو استلمت الدولتان لاحقا أسلحة أمريكية محدودة لدعم استقلالهما من موسكو. على اي حال، سياسة واشنطن الحذرة ازاء حديقة كرملن الخلفية، توقفت في نهاية الحرب الباردة عندما أقدمت الادارات المتتالية بحماس على انضمام التبعيات السوفياتية سابقا والمتوجهة صوب الديمقراطية  الى (حلف)"ناتو". حدث أكثرهم تحرشا في العام 2004، عندما ضغطت ادارة بوش(الابن) على التحالف الغربي لانضمام ثلاث جمهوريات سوفياتية سابقا والتي تقع على حدود روسيا، ديمقراطيات استونيا ولاتفيا وليثوينيا. ان العامل العقائدي يعارض احتمال احترام حكومة الولايات المتحدة لمناطق نفوذ الصين وروسيا. لا يمكن التصور باحتمال أي منطقة نفوذ للصين أن تضع (جزيرة) تايوان (فرموزا سابقا) في خارج القوس  وأي منطقة نفوذ لروسيا أن تضع يوكرانيا في خارج القوس . في الوقت الذي كان اهتمام  الولايات المتحدة بكلا الدولتين هامشيا، تعتبر الصين تايوان مجرد مقاطعة مرتدة من الوطن الام، وبالمثل روسيا تعتبر يوكرانيا المجاورة منطقة دفاع لجبهة أمامية ضد هجوم آخر من الغرب. والحال، تايوان ديمقراطية مزدهرة و يوكرانيا  ديمقراطية صوب الليبرالية بسرعة، والمساعدات العسكرية الأمريكية الى كلا البلدين تتمتع بدعم الحزبين (الأمريكيين) دعما تاما. خلال مثول ترامب للمسائلة في الكونغرس، اشار المشرعون الى يوكرانيا بعبارة متداولة ولكن غير دقيقة قانونيا “حليفة"، التي تكون أكثر احتمالا أن تحتضن هذه الديمقراطيات المهدَدة من أن تتخلى عنها لتصبح فريسة لمنازعي أمريكا الاستبداديين.

ملاحظة من المترجم: ان مثالا آخرا للألفة العقائدية هو موقف الدول العربية والاسلامية والاشتراكية وعدم الانحياز سابقا من القضية الفلسطينية وحركات تحرر الشعوب الاخرى. وبخلاف ذلك هو موقف الدول الاستعمارية والرأسمالية والرجعية من ذات القضايا. وبعبارة اخرى، التحليل على أساس العوامل الموضوعية ضروري ولكن غير كافي بدون الأخذ بالحسبان العوامل الذاتية، الموضوع الغائب، أيضا.

يتطابق ابراز بعض العبارات مع ما هو موجود في النص الأصلي بالإنجليزية.    

 الصورة أعلاه من صور مؤسسة جيتي.

ولمزيد من المعلومات بالإنجليزية والصور راجع الرابط المدون أدناه

https://americas.chathamhouse.org/article/whats-missing-in-the-debate-over-spheres-of-influence/?utm_source=Chatham%20House&utm_medium=email&utm_campaign=11458532_2020%20US%26AP%2C%20March%20newsletter&dm_i=1S3M,6TLGK,R4N0YW,RBPSG,1

 

عرض مقالات: