سجّل التأريخ لليساريين العراقيين والشيوعيين مواقف بطولية وشجاعة في التضامن الاممي على مر العقود ترجمتها الاحداث  عمليا من خلال التطوع والمشاركة وحتى عرائض التضامن والاستنكار، وأشتركت فيها جموع كبيرة من الجماهير، مربية فيهم روح التضامن مع الشعوب وحركات التحرر في كل العالم، ويمكن تسجيل بعضها على سبيل الذكرى، الموقف من القضية الفلسطينية ،العدوان الثلاثي على مصر، ضد الحرب على كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا، التضامن مع حركات التحرر في افريقيا وامريكا اللاتينية وامريكا الشمالية، مع المقاومة الفلسطينية وكل حركات التحرر في الخليج وباقي الدول العربية، الموقف من القضية الكردية وغيرها من المواقف ولليوم مع الحزب الشيوعي السوداني.

اما على صعيد المشاركات الفردية، فهناك امثلة ساطعة كثيرة، منهم من روت دماؤه الزكية تلك البقاع ومنهم من عاش ليروي تفاصيل تلك المشاركات البطولية، في المقاومة الفلسطينية، او حركة تحرير ظفار، وفي جمهورية اليمن الديمقراطية، والصحراء الغربية، والساندينستا .... واسبانيا !

وهنا سأتوقف قليلا امام هذه التجربة النادرة والفريدة.  فقد سجلت لنا الوثائق مشاركة اثنين من المتطوعين العراقيين في الدفاع عن الجمهورية الاسبانية التي قامت ما بين الاعوام (١٩٣٦ ـ ١٩٣٨). وانطلقت حينها حملة تضامنية اممية تطوع خلالها آلاف الوطنيين ومن كل ارجاء العالم ضد التمرد والانقلاب الدموي الذي قاده الجنرال (فرانكو) آنذاك وبتدخل موسوليني والدول المحيطة بها، حيث أغرقوا اسبانيا بالدماء وسقط إثرها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى.

المتطوع الاول كان اسمه (سيتي ابراهام هورش) وهو من ابناء الطائفة اليهودية العراقية، حيث هاجرت عائلته من العراق الى الاورغواي في امريكا الجنوبية عام ١٩٢٩، والتحق من هناك بالمتطوعين الاجانب المدافعين عن الجمهورية عام ١٩٣٧، ليلتقي لاحقا بالمتطوع العراقي نوري روفائيل والذي جمع بينهما الموقف الاممي من الجمهورية الاسبانية، وقد انضم كلاهما الى صفوف الحزب الشيوعي الاسباني في تلك الظروف العصيبة.

ولد نوري روفائيل عام ١٩٠٥ في منطقة (صبابيغ الآل/ سوق الغزل) في بغداد، ودرس الابتدائية في مدرسة الكلدان الواقعة في (عكَد النصارى) وبعد ان أنهى الابتدائية والمتوسطة سافر الى بيروت عام ١٩٢٣ والتحق بالجامعة الامريكية هناك، وعاد الى العراق حاملا شهادة في هندسة الطرق والجسور.  عمل استاذا لمادة الرياضيات في احدى الثانويات بين الاعوام١٩٣٠ـ ١٩٣١، ثم التحق بواحدة من أكبر الجامعات الامريكية في مجال الهندسة (MIT) في ولاية ماسيجوسيس بين الاعوام ١٩٣١ـ١٩٣٣، ويبدو انه انجّر للسياسة هو وزميله (جميل متى) وترك الدراسة، حيث ساهم الوضع السياسي العام في امريكا آنذاك وفي خضم الازمة الاقتصادية الكبرى والكساد، فتأثر بالأفكار اليسارية والشيوعية والنقابات التي كانت سائدة آنذاك. عاد الى العراق، والتحق بجماعة (الاهالي) التي كانت حديثة التشكيل. عمل مهندسا مساعدا في مديرية المساحة والطرق عام ١٩٣٥، وفي آذار من العام ذاته اسس مع (عاصم فليح وجميل توما، ويوسف اسماعيل) جمعية ضد الاستعمار، وقد انفرط عقدها بعد ان اعتقل عاصم فليح.  تعرض للاعتقال والسجن في الفترة (٢٩ تشرين ثان ١٩٣٦ ـ ١٧ نيسان ١٩٣٧) وما لبث ان غادر العراق بعد ان أطلق سراحه بفترة وجيزة متوجها الى فرنسا لشعوره بالخطر من الاعتقال إثر الفوضى التي تلت اغتيال بكر صدقي. مكث في باريس حتى ٧ شباط ١٩٣٨ حيث سافر الى اسبانيا ملتحقا بقوافل المتطوعين عن الجمهورية الثانية، وانضم الى (كتيبة ابراهام لنكولن الاممية) التي كان معظمها من الامريكان، وخدم هناك كجندي ثم عريف ورقي الى رقيب. وأهم مشاركاته كانت في المعارك البطولية (غندسيا ـ آبرو ـ على الحدود مع كاتلونيا). غادر اسبانيا مشيا على الاقدام بعد انهيار مقاومة الجمهوريين، واعتقل في الحدود الفرنسية الاسبانية، وحاول الفرار ثلاث مرات لكنه نجح في المرة الرابعة. وتشاء الصدف ان يصحبه زميله (يوسف اسماعيل) الى باريس، وبعد فترة يقصد السفارة العراقية وهناك يلتقي زميل دراسته قنصل العراق (علي حيدر سليمان) الذي يصدر له جواز سفر مؤقت ويعطيه بعض المال لتأمين عودته الى العراق، وكان ذلك في صيف ١٩٣٩.

شارك في فوج المجاهدين للهجوم على معسكر الحبانية إثر اندلاع حركة مايس عام ١٩٤١، لكنه اعتقل إثر فشل الهجوم فسجن في سجن العمارة ثم البصرة وبعدها الى نقرة السلمان حتى عام ١٩٤٤. اعتكف عن العمل السياسي ومارس التجارة حتى قيام ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨، حيث عين مديرا للسكك الحديدية كان ناشطا في حركة أنصار السلام، ومرة اخرى يتعرض للاعتقال عقب حركة الشواف عام ١٩٥٩، ويلجأ الى الاختفاء لمدة خمس سنوات إثر انقلاب شباط ١٩٦٣. خرج من جديد عام ١٩٦٨ لكنه كان متعبا، فلم يمارس اي نشاط سياسي حتى رحيله عام ١٩٨٥.

 تعود ذكريات نوري روفائيل  وزميله سيتي  ابراهام هورش  الى الحياة مرة اخرى هذا العام وفي اسبانيا لمناسبة الذكرى الثمانين  لسقوط الجمهورية  الاسبانية التي دامت سنتين فقط،  على اثر تمرد الجنرال فرانكو وبمساعدة موسوليني والدول المحيطة التي اغرقت اسبانيا بالدم والتي عرفت كولادة وسابقة للحرب العالمية الثانية، تعود تلك الشخوص للواجهة من جديد عشية تلك الاحتفالات وتتصدر صورتهما في تقويم (روزنامة) عام ٢٠١٨ في شهر كانون الثاني مع نبذة عنهما وعن مآثرهما البطولية في فريق المتطوعين الاجانب ، بالإضافة الى الكثير من الكتابات التي نشرتها صحف اليسار والمحاربين القدماء وانصار الجمهورية عنهم. 

يقول الروائي العالمي ارنست همغواي:" لا أحد مات بشرف ودُفن، كالابطال الذين استشهدوا دفاعاً عن الجمهورية الاسبانية" .

عرض مقالات: