متابعة "طريق الشعب"
الاحتجاجات التي تشهدها مدن عراقية منذ اسابيع ضد الفساد وسوء الادارة، لعبت دورا في احياء الروح الوطنية، كما انها ساهمت في مكافحة عبارات عنصرية يتناقلها العراقيون منذ عقود ضد مدن وسكان والنساء.
تتواصل الاحتجاجات في العراق منذ تشرين الاول الماضي، وفي كل يوم تزداد اعداد المحتجين في بغداد والمحافظات الجنوبية، ورغم غياب التنسيق الواضح بين المتظاهرين، الا انهم متوحدين في الشعارات التي يحملونها لتخلق أجواء من الوحدة الوطنية طالما كانت غائبة لسنوات مضت في بلد معروف عنه الانقسامات الطائفية والقومية والعرقية.
وتنامي المشاعر الوطنية والتعاضد بين العراقيين وحتى سكان المدن التي لم تشارك في الاحتجاجات في الموصل والانبار وصلاح الدين، ساهمت في مكافحة عبارات عنصرية متداولة منذ عشرات السنين، واخرى متعلقة بتمييز عنصري.
في مجتمع قبلي وعشائري جنوبي البلاد، تخضع النساء لأعراف عشائرية وقبلية ظالمة بحقها خصوصا في البصرة وذي قار وبابل والنجف وكربلاء، وكان مفاجئا مشاركة النساء في الاحتجاجات الى جانب الرجال، فالآلاف من طالبات الجامعات والمدارس انضممن الى التظاهرات تاركين الدوام في حصصهم الدراسة اسوة بزملائهم من الشباب.
بعض الشابات اليافعات يعترفن بصعوبة مشاركتهن والعواقب التي قد يتلقونها لاحقا، سواء من الاهل او المجتمع، الا ان اعداد كبيرة منهن لم يكترثن، وكانت حماستهن هي التي تقودهن اكثر من حسابات العادات والتقاليد.
وتقول حوراء محمد وهي طالبة جامعية في البصرة لـموقع "نقاش" "نواجه ضغوط بسبب مشاركتنا نحن النساء في التظاهرات، ولكن لحسن الحظ ان قناع الوقاية من الغاز المسيل للدموع الذي تطلقه قوات الامن، كان مفيدا لنا نحن النساء لإخفاء هويتنا امام عائلاتنا واقاربنا".
لكن والد حوراء رغم ذلك، اكتشف مشاركتها في التظاهرات في احد الايام عندما سمع ان الكليات اعلنت الاضراب العام، ولم تعد ابنته الى المنزل حتى الظهر، وتقول حوراء "لكنه لم يخاطبني بنبرة حادة كما كنت اتوقع، بل خاطبني بلهجة هادئة غير معترض على ما اقوم به، ولكنه ابدى خوفه من التعرض الى اصابة خلال التظاهرات".
في ساحة التحرير في بغداد حيث التظاهرة الاكبر على مستوى البلاد، باتت مشاركة النساء فيها قوية، المئات منهن يشاركن في النشاطات التي تجري في الساحة من اسعاف الجرحى والرسم على الجدران ورفع اللافتات حول مطالب المتظاهرين.
في العراق حاله حال البلدان العربية، فان ظاهرة التحرش منتشرة على نطاق واسع، ولكن رغم التجمع الكبير الذي تشهده الساحة، لم يتم تسجيل حالات لافتة في التحرش، بل على العكس اصبح الشباب حريصون على عدم تعرض النساء على التحرش، لمنع استخدام هذه الظاهرة السلبية من قبل اطراف تريد تشويه التظاهرات بأي ثمن.
وفعلا، تنتشر العديد من المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي عبر حسابات مجهولة وهمية، تنشر اخبارا مزيفة وصورا ومقاطع فيديو عن حالات تحرش، وان حفلات جنسية تجري في ساحة التحرير، الا ان الراي العام لم يصدقها مطلقا.
في محافظة ذي قار ومركزها بلدة الناصرية جنوبي البلاد، تحوّل المتظاهرون فيها الى ابطال في نظر العراقيين جميعا، اذ ان المحتجين فقط بعد يومين من انطلاق التظاهرات سيطروا على المدينة، وتم احراق جميع مكاتب الاحزاب الموجودة فيها، واضطرت الحكومة الى استخدام قوات جهاز مكافحة الارهاب في هذه المدينة دون غيرها للسيطرة على الامور، الا انه لم تحصل صدامات بين الطرفين بسبب السمعة التي يمتلكها جنود مكافحة الارهاب في نظر العراقيين.
ومنذ ايام بدأ العراقيون يتداولون العشرات من المقولات والابيات الشعرية التي تمتدح سكان الناصرية، والمفارقة ان سكان المدينة يعانون منذ عقود ماضية لقبا عنصريا وهو ان سكانها "خبثاء"، وان المدينة هي "الشجرة الخبيثة"، وان اي شخص يقوم بفعل ملتو يطلق عليه اصدقاؤه عبارة "يبدو ان جذورك من الناصرية".
ولكن هذا اللقب العنصري أصبح شتيمة لمن يروج له الان خلال التظاهرات، بل ان العراقيين اصبحوا يمتدحون سكان الناصرية ويطلقون عبارات المديح والفكاهة، احدها "نحن المتظاهرين في بغداد، نحاول منذ اسابيع عبور الجسر المؤدي الى المنطقة الخضراء دون تحقيق ذلك، نطلب من اخواننا المتظاهرين في الناصرية مساعدتنا لعبور الجسر بسرعة".
قول آخر لمن يخاطب شخصا شقيا، "توقف عن افعالك السيئة، والا جلبت لك متظاهر من الناصرية لتأديبك"، وأخرى عندما فاز المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم على نظيره المنتخب القطري بهدفين مقابل هدف واحد، نشر عشرات العراقيين على صفحاتهم يقولون "يبدو ان اللاعبين الذين سجلوا الهدفين تعود جذورهم الى الناصرية " وغيرها العشرات.
ومن العبارات العنصرية والتي تعتبر الاشهر في البلاد، هي عبارتي "الشروكية" و"المعدان" التي تطلق على سكان المحافظات الجنوبية الفقيرة، ورغم ان تفسيرات الكلمة الاولى تشير الى اصولها سومرية وتعني السكان الاصليين للعراق، الا ان العبارة تطلق منذ عقود طويلة بقصد الاستحقار والتقليل من شأنهم، وان اي شخص يقوم بسلوك غير حضاري يتلقى عبارة "لماذا قمت بذلك، يبدو أنك شروكي".
ولكن الحال تغير بعد انطلاق التظاهرات، اذ ان الاحتجاجات الاكبر التي انطلقت من الجنوب جعل من عبارة "الشروكية" فخرا، ويتداولها جميع العراقيين في مختلف انحاء البلاد، ويمتدحون سكان هذه المدن، واصبح سكان هذه المدن يفتخرون بالعبارة بعدما كانوا يتجنبونها، واصبحوا اليوم يكتبون في منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي او ملف التعريف بهم، عبارة "شروكي وافتخر".
الجيل الشاب الذي اشعل التظاهرات، لطالما كانت يتعرض الى الانتقاد والتجريح من الاجيال الاكبر سنا من خلال عبارات التقليل من شانهم ومن انهم جيل كسول منهمك في الانترنيت والعاب الفيديو، ولكن ما بعد التظاهرات تغيرت المعادلة، واصبح الحديث المتداول بين العراقيين في ان هذا الجيل مشرّف وشجاع، وهو الذي سيقود التغيير، ولم يعد احد ينتقد هؤلاء الشباب بعد الان.
احدى اللافتات المثيرة للاهتمام رفعها رجلان كبيران في السن خلال مشاركتهم في التظاهرات، مخاطبين الشباب، تقول "الى الذين أيقظونا من سباتنا، وكسروا حاجز الصمت فينا، ننحني تحت اقدامكم".