كانت لنا اجندة مليئة بالمواعيد، نخطط ونعد البرامج ونفرش السجّاد لنضيّف بعضنا بعضا: (( عازمك على احسابي بشريف وحداد، نتمشى بالشارع الليلكي شارع النهر، نعود الى طفولتنا والطائرات الورقية..!!))، هكذا كنّا نتمتع بالحياة في الخيال بجموح وأسراف وبذخ!.

تدريجيا وبمرور الزمن، بدأ حلم الانتصار والعودة الى الوطن يتضاءل، ومهما حاولنا فبركة المونتاجات، فانّ الصورة الواقعية للجبل والخالية من كلّ لباسٍ وإلتباس أبتْ ان لا تقوم بهدم الاسطورة!، فهذا النظام المدعوم من العالم ومن اصدقائنا في المعسكر الاشتراكي، لا يمكن ان يسقط بالسهولة التي كنّا نتوقعها وما علينا الاّ ان نتآلف مع الحياة الجديدة بكل قسوتها ووحشتها.

 هذه القناعات التي بدأت تزيح القناع وتكشف عن وجهها سرا وعلنا، افرزت نوعا جديدا من التحدي، تحدٍ يحرق مراحل الماضي ولا يأبه لضياع المستقبل ولا يحلم الاّ داخل فضاء الجبل الضيق، هذا ما توصل اليه اغلب الانصار وخاصة بعد تجربة الجوع والبحث عن الخبز وبعد ما جرى من مآسٍ في ذلك ((الوادي المسموم))!.

لكنّ اجهزة النظام واستخباراته العسكرية لم تترك لنا فرصة للاقامة وظلت تقصف مقراتنا وترسل لنا الاشارات بين الحين والاخر بأنها عازمة على اقتحام المكان وما علينا الاّ مغادرته، بالاضافة الى ذلك فأنّ هذا الوادي لم يكن ملائما للقتال وهامش المناورة فيه ضيقا جدا وخاصة انّ التلال المحيطة به من جهة الجنوب والجنوب الغربي من السهل على السلطة الوصول اليها ومن دون عوائق.

زرع فينا الحزب الاصرار والعناد وجعلنا نحلم بمستقبل جميل لهذا العراق، وبغض النظر عن الثقافة السائدة آنذاك، لكنّ المرء عندما ينظر الى ذلك الزمن من منطق اليوم، فلابدّ ان يقف محنيّ الهامة لأبناء السهوب الذين عضوا على اوجاع غربة الجسد والروح ليبنوا في الجبل بيتا مختلفا وعائلة من نوع آخر وطقوس وتقاليد ولغة جديدة!.

كانت لنا في مقر ((لولان)) فرقة مسرحية بقيادة الفنان النصير صباح المندلاوي، هذه الفرقة لم تستطع ان تقدم  شيئا بأستثناء موجة الضحك التي يثيرها النصير الفقيد ابو اصطيف في تندره على الممثلين اثناء تأدية ادوارهم، فلا احد له علاقة بالمسرح ولا بالتمثيل ولا بأي شيء من هذا.

وفي مقر ((دراو)) كنّا نلعب كرة القدم مع ((الهورمان)) قبل ان يتفرقوا، امّا في المقر الذي يقوده ملازم ابو انتصار والذي كان من اسوأ المقرات من الناحية العسكرية، فقد كانت لنا نشرة جدارية نعبّر فيها عن ما يدور في دواخلنا، وهكذا كنّا نحاول دائما ابتكار أدوات تسلية جديدة لكي نجعل التجربة اكثر احتمالا وهدوءا.

تفرق الانصار وذهب ((الهورمان)) كل في اتجاه، وتقلص عدد الفصائل بما يتلاءم مع مهمات هذا القاطع الانصاري، كما تغيرت الادارات، فصار النصير ابو عبلة آمر فصيل ((لولان))، والنصير هجار آمر فصيل ((دراو))، واستبدلنا مقر ملازم ابو انتصار بمقر جديد على سفح الجبل من الجهة الاخرى هو مقر ((سبيكَا))، الذي اكتشفنا فيما بعد بأنّ العفاريت سبقتنا إليه! ولذلك سرعان ما تمّ الغاءه.

وبعد ذلك ولأنّ التجربة علمتنا أن نبحث دائما عن اماكن اكثر تحصينا وخاصة الى ((الاذاعة))، فقررت قيادتنا الانسحاب الى وادي ((خوا كورك)) الاقرب الى المثلث الحدودي.

يتبع

 

عرض مقالات: