هل يمكن أن نكف ذات يوم عن تذكر تلك اللحظات الصعبة والفريدة التي مررنا بها في ذلك الوقت المر، أم سنبقى نتذكرها، ولن تغيب عن بالنا مهما امتد بنا العمر وابتعد بنا الزمن عن لحظة وقوعها ؟..
لقد انتمى الشهيد ماهر الى الحزب الشيوعي العراقي في الوقت الذي وجهت سلطة المقبور صدام ضربة موجعة الى الحزب واقدامها بإعدام 31 مناضلا واصدقاء لهم في عام 1978 بحجة انتسابهم للحزب الشيوعي والعمل في القوات المسلحة.
كان الحزب يتهيأ الى مرحلة جديدة. واتخاذ قرار الانسحاب من الجبهة والتحول إلى المعارضة، ورفع شعار إسقاط النظام.
لم يكن ذلك الانتماء إلا اختياراً للطريق بإرادة واعية وقناعة مطلقة، ولم تكن هذه الخطوة عفوية او نقلة مفاجئة للفقيد الذي تشكلت ملامحه الثورية من ريعان شبابه وبدأ وعيه الثوري المنحاز للفقراء والكادحين وادراك يقيني بأهمية جذوة الفكر الماركسي بعد أن تواصلت قراءته لماركس وانجلز ولينين و غيرهم من المفكرين الماركسيين حيث انغمر في العمل الثوري بلا تردد مع استعداد عال للتضحية بمصالحه الشخصية من أجل تحقيق حياة حرة للإنسانية.
انّ سرْ بطولة المناضل لحد التضحية بحياته نابعة من إيمانه الراسخ بالفكر الذي يحمله وعدالة قضيته.
التقيت بالشهيد ماهر، بعد فراق دام ست سنوات، في 21 آذار 1984، واللقاء الثاني في نهاية آذار ذاته، في ذلك الصباح الربيعي كنت مرتبكاً.. فرحا مع حذر يحمل في طياته بعض الخوف والرهبة. كنا نحلق في السماء معا متجاهلين ما يخفي لنا المستقبل.
ماهر كان طالباً في الصف الخامس كلية الطب البيطري.. كاتباً وصحفياً.. رساماً مرموقاً وخطاطاً لا يستهان به. عازف جيتار ولاعب شطرنج موهوب وعداء .. كان يقوم بإعداد الجريدة وطبعها بجهاز رونيو يدوي صنعه بنفسه. وقد طلب منه الرفيق الفقيد ثابت حبيب العاني عضو المكتب السياسي للحزب في حينها أن يعمل في قسم الاطفال من جريدة طريق الشعب.. الا ان الظروف السياسية حالت دون ذلك المشروع.
على اثر طبعه لبيان الحزب بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي الذي استمع إليه من اذاعة صوت الشعب العراقي وتم توزيعة في انحاء بغداد كافة.
لم تمضِ الا 19 يوماً على عودته.. ألقي القبض عليه في مسكنه ببغداد ليلة (14) نيسان، وبعد المراقبة المشددة داهمت اجهزة السلطة الدار في الساعة الخامسة من صباح 15 نيسان. وحال اعتقاله مورست معه شتى أشكال التعذيب النفسي والجسدي.
كيف لا تضطرب نبضات قلبي وانا احدق في صورتك كل يوم. وكيف لا تعود الآلام وتسري في جسدي كأني اراكم انت ورفاقك تتعذبون.
اللقاء الأخير أصبح زيارة وداع كما قدرته.. و لو منعتك عن الرحيل لما وقعت في ذلك الفخ القاتل!.
اخاطب نفسي وأقول: كيف تحمل ذلك الجسم النحيف والنحيل كل ذلك التعذيب النفسي والجسدي؟.
اتذكر في ذات اللقاء قلت لي.. لم اجلب احدا معي خوفا من أن لا يصمد إذا اعتقلنا في الطريق.. هل كنت تقرأ وتتنبأ لمصيرك؟.. أم كنت تكابر كأي مناضل حقيقي في هذا الكون؟..
كنتَ واثقا من نفسك ستصمد و ستضحي بروحك إن تطلب الموقف وتعرضت للاختبار.. قلت لي أيضا يجب أن يواصل الشيوعي السير نحو الحقيقة حتى لو كان على حافة قبره.
لقد سجلت بطولتك وانت تودع والدتك، والقيود تلف يديك، حين قلت لها لا تحزني يا أُمّي.. إن لم تريني مرة اخرى.
كان شتاءًغريبا باردا، هواؤه صقيع، ذلك الشتاء الذي أعدم فيه نحو مائة وخمسون مناضلا من مختلف الاتجاهات السياسية بضمنهم البطل ماهر الزهاوي.
تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم في الساعة الخامسة من مساء الأربعاء في 27 كانون الثاني عام 1985 شنقا حتى الموت بعد مرور 256 يوما على اعتقاله، آنذاك كنت أتواجد في مدينة السليمانية.. هذه المدينة الباسلة، وقد مرت ثلاث مائة وخمسة وستون يوما على تواجدي فيها.
لقد غيبت السلطة الفاشية منذ انسحاب الحزب من الجبهة المئات من المناضلين الشيوعيين.. ولحد الان لا يعرف مكان قبورهم إلا أنهم سلموا جثامين (150) من الشهداء في نفس يوم الاعدام الى عوائلهم..
فكرة الإعدام تثير القلق والرعب والخوف في نفوس الناس، و الهدف منها بهذا الشكل العلني السافر خلق حالة يأس واحباط لدى الجماهير وتركيع الحزب بعد تزايد نشاطاته وجماهيره في المدن.. ومخاوف السلطة الفاشية من توسع هذا النشاط واستيقاظ الجماهير وانتشار الوعي الثوري واحتمالات أن تتخذ الاحداث ابعاد اخرى بعد أن ظهرت بوادر الحركة الجماهيرية في الجامعات العراقية عام 1984 والاحتجاجات ضد التجنيد الإجباري للطلبة في صفوف الجيش اللاشعبي.. حيث انبثقت وتشكلت لهذا الغرض لجنة طلابية لقيادة الإضرابات من ممثلي اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية وبعض الطلبة اليساريين في جامعة بغداد وكان أحد ممثلينا هو الرفيق حمة شوان(1).
وتجسدت المقاومة الجماهيرية الواسعة على نحو بطولي في مدينة السليمانية في انتفاضة ايار 1984 المجيدة، والتى لعبت اذاعة صوت الشعب العراقي دورا تحريضيا فيها عبر نشرها شعارات ومطالب الجماهير. وكانت لمنظمة حزبنا الشيوعي في السليمانية دورا هاما وبارزا في توجيه الانتفاضة.. و تمكنت الجماهير الشعبية من السيطرة على الشارع على مدى يومين بعد أن اسكتت نيران العدو من خلال فرق عسكرية شكّلها الحزب لحماية الجماهير..التي ارعبت أزلام السلطة وفي مسعى منها للرد اقدمت على جملة اعدامات لدحر المنتفضين وخلق مظاهر التردد واشاعة أجواء الانهيار، لاركاع جماهير الشعب وفرض الطاعة والخنوع للسلطة الفاشية.
الموت الاختياري الذي يواجه الإنسان يكون معياراً لحريته وبمعنى آخر المساحة بين الحرية والموت يقررها المناضل الحر الثائر وليس سلطة الاستبداد والقمع.
كان ماهر اكثر تماسكا في اللحظات الاخيرة من حياته، لا يهاب الموت، وهو ينتظر دوره ليدخل الى غرفة المقصلة مرفوع الرأس، ومرتديا نفس الملابس التي كانت عليه لحظة اعتقاله، وبهدوء روى نكتة ساخرة عن صدام حسين وأضحك الجلادين البلداء. تقول والدتنا عند استلامها لجثته كان وجهه يبدو لنا كالنائم نوما عميقاً.
لقد نالوا من جسدك الطاهر وقتلوا طموحاتك واحلامك الجميلة.. ستبقى روحك خالدة الى الابد في ضمير الانسانية تعانق السماء وتلتقي مع سائر رفاقك الشهداء والشرفاء في موكب الحرية والكفاح من اجل الحياة الحرة والكريمة..
تحية حب واعتزاز الى اولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفهم فداء للوطن والشعب كجنود مجهولين عرفتهم الشوارع والأزقة المظلمة.
هذا نص رسالة الشهيد
رسالة تهنئة لم تصل من الشهيد ماهر عبد الجبار زهاوي
استميحكم عذرا لقد تأخرت في تهنئتكم بهذه المناسبة العزيزة على قلوب كل الشيوعيين الذين استشهدوا في هذا الدرب من اجل قضية شعبهم ووطنهم.. وانا استذكر هنا الذكرى الخمسين لميلاد حزبنا الشيوعي العراقي في 31 آذار عام (1984) .. عندما كنت اعمل في الظروف السرية واقود مجموعة من الخلايا الحزبية من اجل اعادة بناء الحزب في بغداد.. في ذلك الظرف الصعب الذي كان يمر به شعبنا وحزبنا المقدام وفي ظرف الدكتاتورية الصدامية المعروفة بتدمير كل ما هو إنساني بالمعنى الحقيقي.
في ذلك الظرف الصعب لم نبال نحن الشباب بما يحدث لنا، لذا قررت ومع رفاقي ان نبادر الى طبع بيان الحزب بمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد حزبنا العظيم الذي استمعنا إليه من اذاعة حزبنا في كردستان وفي معاقل الأنصار والبيشمركة الابطال.
وتم طبعه على آلة طابعة، وقد طبعته رفيقة شيوعية مناضلة في إحدى دوائر الدولة ومن ثم بدأنا بطبعه على الرونيو اليدوية التي تعلمتها من رفاقي بعد زيارتي لهم في السليمانية وقد طورها والدي نحو الأفضل لكي نطبع اكبر عدد ممكن خلال ساعات.
فبدأنا بالطبع ووزعنا الآلاف من هذه البيانات على ضواحي بغداد فجن جنون الاجهزة القمعية وبدأت المراقبة والمتابعة لي والقي القبض علي في ليلة (14) نيسان يوم ذكرى تأسيس اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية.. وكنت يوم ذاك طالبا في الصف المنتهي في كلية الطب البيطري وقدمت إلى محكمة صورية في محكمة الثورة التي حكمت عليّ بالإعدام.. ثم تحدد تنفيذ الحكم بي في يوم مجيد من تاريخ العراق السياسي وهو يوم الوثبة 27 كانون 1985 للالتحاق بقافلة شهداء حزبنا العظيم.
رفيقكم ماهر عبد الجبار زهاوي
لقد نفذ حكم الإعدام بالشهيد في يوم الوثبة 27 كانون الثاني عام 1985. ووفاءً لطلب شهيدنا الغالي نرسل تهنئته ورسالته الأخيرة الى رفاق حزبه المناضل راجين نشرها بمناسبة 31 آذار 8 200.
عائلة الشهيد ماهر عبد الجبار الزهاوي