دأبت قيادة الحركة الانصارية التابعة للحزب الشيوعي العراقي في كردستان العراق في ثمانينات القرن الماضي، وخلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، نقل مقراتها ومواقعها الخلفية ومناطق تواجد وحدات البريد والتموين والاعلام بعيدا عن مناطق التوغل الإيراني في الأراضي العراقية، وتجنبت الصدام مع وحدات الجيش العراقي المشتبكة مع القوات الإيرانية المهاجمة. وانطلاقا من هذا المبدأ انتقلت قاعدة ناوزنك ـ مقر لقيادة الحزب، ولاذاعته ـ صوت الشعب العراقي ـ ولمجمل اعلامه الى بشتاشان خريف 1982. ولنفس السبب تم الانتقال من منطقة لولان الى وادي خواكرك أعوام 1984ــ 1985 .

 المقر القيادي في منطقة خواكرك، وانت تصل اليه للوهلة الأولى، سوف تتعرف عينك الناظرة تلقائيا على شخصية متميزة، لمناضل ومقاتل، دائب الحركة والنشاط، وفي غاية الانضباط والدقة المرتكزة على الاقدام والشجاعة، والجرأة والابداع في اتخاذ المواقف، متحليا بروح مرحة، ميالة للدعابة والنكتة في اشد الظروف حراجة وشدة.  وبالمناسبة فان النكتة كانت سلاحا فعالا من أسلحة الأنصار الدفاعية في مواجهة قسوة الطبيعة والاحوال المناخية والحياة الجبلية شبه البدائية في الوديان والكهوف، علاوة على مواجهة جبروت السلطة الدكتاتورية المدججة بشتى صنوف الأسلحة الحربية التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية.

مام علي الذي كان نصيرا في احد مواقعنا الانصارية في قرية بيربينان، ينتمي في الأساس الى احد فصائل اليسار الإيراني الذين غدر بهم نظام الامام الخميني بعد هيمنته منفردا على السلطة السياسية في ايران ضاربا عرض الحائط بكل التضحيات، ومتنكرا للدور البطولي لعموم قوى اليسار الإيراني، ولدور الأحزاب والشخصيات والحركات السياسية ذات التوجه الليبرالي، والإسلامي المستقل في اسقاط نظام الشاه وقيام الجمهورية.

 وبسبب من حملات الاعتقال والتصفية السياسية والجسدية، تواجد اعداد من كوادر وقادة فصائل اليسار الإيراني ضيوفا على الحزب الشيوعي العراقي في مناطق تواجده الخلفية، فيما كان يسمى آنذاك المناطق المحررة من بطش الدكتاتورية، وعاشوا معنا رفاق درب وكفاح  في مقرات ومواقع مشتركة او مستقلة، ولهم مهامهم الإدارية والسياسية المستقلة الخاصة بهم، ولم يكونوا يوما طرفا في نشاطنا العسكري الانصاري مطلقا.

 واعتقد ان تواجد مام علي وثلاثة من رفاقه من الكوادر الحزبية، الذين ينتمون الى منظمة السازمان الايرانية في مقر قيادي للحزب الشيوعي العراقي، مرتبط بمهام خاصة يجري التنسيق بها مع قيادة الحزب. وما اعرفه عن مام علي ان لديه تحصيلا علميا جامعيا، درس في كلية العلوم ـ جامعة بختران ـ، مارس مهنة التدريس، واضطر الى ترك الوظيفة والاختفاء لتجنب ملاحقات الاجهزة الأمنية والمخابراتية لسلطة الجمهورية الإسلامية في عموم المدن الإيرانية. وعلى الرغم من هدوئه الظاهري، الا انه تميز بشخصية صدامية لا تعرف الخوف اوالتردد، ولديه مواقف مشهودة في معارك الشوارع، مقاوما الاعتداءات واعمال العنف التي يقوم بها المتطرفون الإسلامويون على الشابات والشباب العزل وهم يمارسون حياتهم المدنية الاعتيادية في الشوارع او في الحدائق العامة وفي اروقة الجامعات والمدارس وغيرها...

ينحدر مام علي من مدينة (سقز او سنندج) * في كردستان ايران، متزوج ولديه خمسة أبناء، وخلال فترة تواجده في المناطق الحدودية العراقية الإيرانية، توفرت له فرصة التسلل بسرية الى الأراضي الإيرانية ليلتقي عائلته، بعد انقطاع لعدة سنوات، عاد بعدها مفعما بالحيوية والنشاط.

 كان يتحدث الفارسية والآذرية إضافة الى لغة الام، اللغة الكردية، وخلال تواجده في مقراتنا تعلم اللغة العربية، حيث يتحدثها بطلاقة وبلكنة محببة. وكان مبادرا ومشاركا وسباقا في تنفيذ كل الواجبات اليومية، من الحراسات النهارية والليلية، الى التموين والتحطيب واعداد وجبات الطعام (الطبخ والعجن والخبز)، الخ...، علاوة على مهامه السياسية التي يتطلبها عمله التنظيمي المستقل.

في حملة الانفال السيئة الصيت على القرى الكردستانية، وعلى عموم مناطق نشاط البيشمركة، ومقراتهم ، كان لوادي خوكورك نصيبه من الهجوم بالمدفعية والطيران لفترة امتدت لاكثر من خمسين يوما. ابتدأت تحركات قوات السلطة في بداية تموز 1988 بالسيطرة على المرتفعات والقمم المطلة على الوادي، وبعد ان احكمت استعداداتها تقدمت نحو مواقع الأنصار ارضا وجوا في 19 تموز 1988، وتابعته تصعيدا بكثافة نارية غير معهودة، حيث تتفجر عشرات القذائف شديدة الانفجار في كل دقيقة، وفي كل ركن وزاوية، على مساحة جغرافية محدودة، وهي القمة الجبلية المعروفة باسم (قبر ظاهر). تصدت لها قوات الانصار الابطال متحصنين بما توفره الطبيعة الصخرية لسفوح الجبال وقممها، وباسلحتهم المكونة من البنادق الاتوماتيكية والدوشكات، لعرقلة هجوم السلطة، وتأمين انسحابها بأقل الخسائر.

 تم الاستعداد لمواجهة هجوم السلطة بوقت مبكر، بتفريغ المقرات تماما، وإبقاء عدد محدود من المقاتلين على المرتفعات المحيطة، لرصد حركة القوات المهاجمة. بعد منتصف الشهر الثامن 1988 وفي اليوم المتوقع للتقدم نحو المواقع الانصارية، مرت ليلة هادئة بدون اطلاق نار من جانب قوات السلطة المهاجمة، استيقظ مام علي صباحا، من غفوة استراحة، متسائلا ومازحا بسخريته المعهودة: "وين الهجوم تظلون تكذبون علينه؟!!!". كان في طريقه الى عين الماء، ماسكا بيده فرشة اسنانه، وعندما طلب منه المسؤول  العسكري الاستعجال للتوجه  الى استدارة الوادي لتناول الفطور تمهيدا للانسحاب من المقر، في هذه اللحظة بالضبط انفجرت قذيفة مدفع وسط  الساحة الكائنة بجانب بناية القاعة، راح ضحيتها الرفيق مام علي، حيث اصابته شظية في الراس واستشهد في الحال. في موقع بيربينان العليا على حافة السفح المسطح قريبا من مجرى الماء (الروبار)، وتحت شجرة وارفة تعاون الرفاق على دفن جسده الذي كان ما يزال محتفظا بشيء من حرارة الحياة، وباستشهاده خسرنا مناضلا امميا، وانسانا نادر المثال، اثيرا على قلوبنا جميعا.

* المعلومة غير مؤكدة

المعلومات الشخصية والعائلية نقلا عن الرفيق عادل حسين (أبو كاوة)

للتصحيح والاضافة، المراسلة على العنوان التالي:

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.