السويد – مالمو – فاضل زيارة

بدعوة من الجمعية الثقافية العراقية وضمن موسمها الثقافي المتميز حل بيننا الباحث الأكاديمي الدكتور فارس كمال نظمي والذي عودنا دائما ان يحل لنا عقدا ويمنحنا رؤية لما هو قادم من الايام، رغم ان لا قوانين ثابتة خاصة بالمجتمع تستطيع إدراك ما يحصل، لكنه ينحت في صخر المجتمع العراقي من اجل التوجيه وفك الطلاسم وايضاح الطريق.

وقبل ان يبدا قدم له الزميل فهد محمود حيث اورد بان الباحث ليس ضيفا وانما هو عضا فاعل في هذه الجمعية من خلال عطائه الثر وما يملكه من قدرة على التحليل والاستنتاج وفقا لما لديه من مؤهلات علمية واكاديمية وبحثية. ابتدأ محاضرته بان الفساد في العراق هي موضوعة مركزية تطال كل انماط الحياة السياسية والثقافية والتربوية والتعليمية والاكاديمية وربما حتى الحياة الاسرية والشخصية. وما يميز الفساد كظاهرة بانه سبب وانه نتيجة لسياسات معينة اقتصادية وادارية وانماط قيم ومنظومات ثقافية وانه سبب لاعتلالات والى امراض اجتماعية وسياسية. والحديث عنه يعني الحديث عن الحرمان والفقر والبطالة وتمزق الهوية الوطنية وكل انواع التطرف التي تحصل في المجتمع، وهو يعبر عن فشل الدول في تحقيق الحد الادنى من الخدمات ومن امكانية بناء دول مستقرة للمواطنة والحقوق المتساوية.

وفي العراق، ان الحديث عنه له نكهة وطعم خاص ويحتاج الى تخطيط معلوماتي وثقافي وفكري خاص حيث استعرض على لوحة العرض الكثير من الاستشهادات عن الفساد كما عرض مفاهيم فكرية وثقافية واكاديمية حول هذا الموضوع. ولكي يدخل في صلب الموضوع طرح السؤال الواسع وهو – هل ان العراق في الاصل دولة فاسدة او انه مسالة مجتمعية وان العراقيين فاسدين؟ ام انه نظام سياسي فاسد؟ ام ان المسالة تتعلق بوجود فاسدين كبار نهبوا المال العام وأفسدوا البلاد وبذلك فهي مسألة اشخاص؟

سلوكيات الفساد التقليدية – ذكر الباحث امثلة منها وهي الرشوة، المحسوبية، التزوير، الاختلاس ووضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، كما أكد على ان في الدول المجزومة (الفاشلة – الهشة) تجاوز الفساد هذه السلوكيات التقليدية نحو سلوكيات جديدة وهي –

* تأويل النصوص التشريعية من اجل تحقيق مصلحة معينة.

* معايير التوظيف ليس على الخبرة بل تخضع لعوامل اخرى.

* المعايير المزدوجة في تطبيق القوانين والانظمة اي ان ما ينطبق على هذه الجماعة لا ينطبق على اخرى.

* اقحام الممارسات الدينية في بيئة العمل.

* طغيان الشكل البيروقراطي على حساب الجوهرية.

* التسويف وازدراء قيمة الزمن.

بعد ان شرح الباحث كل ذلك بالتفصيل طرح الاسئلة التالية على الحضور، * هل الناس اشرار ام اخيار؟ انانيون ام قادرين على العطاء؟ هل الحياة البشرية تستند الى فكرة الفضيلة والخير العام ام الى الحيازة والامتلاك والانانية؟ ومثل هذا طرح من قبل الفلسفة القديمة والحديثة واجابت عنها.

*هل الفساد من طبيعة البشر؟ وهل هي ملازمه له ام هو تطبع مكتسب املته الانظمة التي حكمت المجتمعات؟ واشار في ذلك الى اراء عدد من الباحثين مثل عالم النفس الامريكي سكنر والعالم فرويد الذي قال بان الاصل هو ان الانسان متحيز لذاته ولكنه قادر على تدريب ذاته للتخفيف من عامل الحيازة والتملك.

* هل الفساد السياسي والاداري ظاهرة غير اخلاقية؟ ام هو نتاج لبنية سياسية وادارية تسمح للفاسد بتسلم زمام الامور ولا تسمح لغير الفاسد ان يعمل ضمن هذا المؤسسة.

وقد ضرب لنا امثلة على ذلك فيما حصل في مصر وتونس قبل وبعد الربيع العربي حيث ذكر بان الفساد ارتفع فيهما بشكل ملفت للنظر، اي ان النظام لم يتغير بل الذي تغير هم الاشخاص الذين يديرون النظام.

ثم عرج الباحث الى دراسة مسألتين وهما – ان الفساد هو انتاج اشخاص وذلك لتوفر الخصائص التالية التي تؤهلهم للانزلاق في الفساد وهي سلوك المستمد من التربية مثل الانفصال الاخلاقي، نزعة الانحياز الى الذات، العجز عن التعاطف، الولاء للجماعة، القدرة على التلاعب، الجشع، فرط الثقة بالنفس.

والمسألة الثانية هو ان الفساد نتاج مؤسساتي كما هو حاصل في العراق والذي جعلت منه يأتي في المرتبة العاشرة بين دول العالم وان الاسباب التي ادت لذلك هي –

اولا - الاقتصاد الريعي، ومن خلاله يشتري النظام الحكومي ذمم وولاءات بشكل مباشر وغير مباشر وبهذا يؤدي الى ان القوة الاقتصادية تتحول الى خارج مؤسسات الدولة وتنشا شبكة تسمى بالزبائنية، وهؤلاء يمتلكون المال بدون تقديم جهد انتاجي وهذا يعني فقدان ذمة العمل مما يجعل مؤسسات الدولة ضعيفة ولا يوجد مجتمع مدني قادر على المراقبة باستثناء دولة النرويج اذ انها تمتلك قيم ديمقراطية ومؤسسات رصينة قادرة على تجاوز مثل هذا الوضع.

ثانيا – سياسات الهوية (العرق – الدين – الطائفة – العشيرة) ونطلق عليها نظام الثانيات السياسية او المحاصصة الطائفية. ان هذه السياسات تنتج الفساد، حيث يتحول المواطن الى هوية جماعتية ويفقد فكرة المصلحة العامة او المال العام وحتى لو قام بعمل فاسد فان جماعته الاثنية او المذهبية ستجد له تبريرا وعونا على تجاوز ذلك، لذلك ستفقد الدولة قدرتها على ان تجد مسارا او نسقا واحدا على تنفيذ فكرة القانون، ففكرة القانون والوعي القانوني يغيب ويحل محله فكرة الولاء للجماعة وتكون شفيع له في كل شئ.

ان اي نظام يقوم على فكرة سياسات الهوية ومنها العراق فان الفساد يكون منتجا بشكل عفوي وتلقائي وبشكل يومي ومؤسساتي. حيث اشار في مقارنة علمية بين الفساد في نظام المقبور صدام والنظام الحالي، الى ان الفساد كان فيه نظام مشخصن وهو مرتبط بالعائلة الحاكمة وكانت الامور واضحة امام الناس، اما بعد الاحتلال 2003 أصبح الفساد أكثر ديمقراطية اي غير مهيكل وغير معروف ولكنه شائع ويعمل بطريقة شبكية ويستجيب لمراكز قوى عدة وفي وقت واحد، وبالتالي فانه لا يعيق عمل النظام فقط بل يمنع وجود اي نظام او استقراره.

ثالثا – النزعة الجمعانية مقابل النزعة الفردانية -  وهذا يعني ان ثقافة المجتمع لها علاقة بالفساد، حيث أبرز الدكتور فارس وحسب الدراسات بان الرشوة مثلا تزداد في المجتمعات الجمعانية رغم وجود الروح الجماعية (البلدان الشرق اوسطية) بسبب ان قدرة الفرد تنخفض على تحمل المسؤولية الاجتماعية، اي ان اهمية دوره الاجتماعي تصبح اقل كما هو في العراق. اما الفردانية فتتمثل في المجتمعات المتقدمة.

رابعا – الترخيص الاخلاقي – ويعني الرخصة او الاجازة الاخلاقية، اي ان انتساب الفرد الى مجاميع لها اهمية كبيرة، يستطيع ان يعطي لنفسه احقية شخصية على حساب المجتمع، وهذا تبرز في الحكومات التي سيطرت عليها الاحزاب في كافة دول العالم، وهذا يعني التصرف بوضع اقل اخلاقية.

في نهاية المحاضرة أكد الدكتور فارس ان هذه العوامل إذا اجتمعت فان المؤسسة تصبح منتجة للفساد، واستنتاجا فان ما يحدث في العراق هو عملية معقدة تتفاعل فيها كل العناصر المذكورة وغير المذكورة، فعلينا ان نحيط بكل هذه التغيرات والتوصل الى امكانيات نستطيع ان نوظفها بشكل علمي كبداية لإصلاح هذا البلد.

ومن خلال ذلك هل نستطيع القول بان المؤسسات التشريعية والرقابية قادرة على اصلاح نفسها ذاتيا ام اننا ذاهبون الى تغيير البنية وليس اصلاحها. وهل ان مسالة الفساد تكافح عن طريق تغيير البنية كالانتخابات مثلا ام اننا سنذهب الى حلول راديكالية؟

ثم استقبل الدكتور مداخلات واسئلة قسم من الحضور حيث اجاب على الجميع بشكل مفصل وعلمي وفقا للواقع الراهن الذي يمر بها المجتمع العراقي المبتلى بنقمة النفط ونظام المحاصصة الطائفية المقيتة.

باقة ورد تطرز صدر الدكتور فارس كمال نظمي مع ابتسامة تعلن عن فرح قادم رغم انه يطول لمجتمع قادر على تجاوز محنته بالوعي.

السبت / 17 – 02 – 2018