بغياب كاظم فرهود (أبو قاعدة) تنطوي صفحة حية من صفحات تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، وحينما نقول صفحة حية ، فلأن الفقيد لم يكن شاهداً على الأحداث فقط ، ولكنه كان من صُنّاعها المهمّين، وفي فترة كانت هي الأبرز في تاريخ العراق ، وهي الفترة التي سبقت وشكّلت يما بعد 14 تموز 1958 ومابعدها.

  • ولد الفقيد عام 1926ـ1927 في ناحية السنية التابعة لمحافظة الديوانية لعائلة فلاحية . كان والده ينحدر من عائلة من كبار المُلاّك ، لكنه وبسب المشاكل العائلية إنفصل عن والده مستصحباً والدته معه ، ليعمل فلاحاً بسيطاً بالمحاصصة ، وعاش ردحاً من حياته واحداً من فقراء الفلاحين حتى بعد زواجه وإنجابه لـ 3 أولاد هم (عباس ـ كاظم ـ حسن) لكنه بعد أن لمس مرارة العيش وقساوة الظروف الأجتماعية والأقتصادية ، ترك الريف الى المدينة ، حيث تسنى لأولاده التعليم التقليدي الذي بدأ عند الملا ثم تحول الى التعليم الحكومي.
  • بعد فترة قصيرة من عيشهم في المدينة توالت النكبات عليهم ، والتي بدأت بوفاة الأم ، ثم تبعها بعد فترة قصيرة الأخ الصغير وتتوج الحزن الكبير بموت الأب مبكراً ، لتكتمل السلسلة بالفقر واليتم .
  • كانت الديوانية بمجتمعها الفلاحي البسيط والمركب في آن معاً ، ساحة خصبة للتيارات والأحزاب السياسية ومنها الحزب الشيوعي العراقي ، فأنضم اليه مبكراً وهو بعمر السابعة عشر تقريباً وأنغمس في معظم نشاطاته آنذاك.
  • لم يستطع إكمال دراسته بسبب فقره ويتمه المبكر معاً ، وتوقف تعليمه الرسمي بإنتهاء الصف الثاني المتوسط ، وحاول في ظل الأمكانات البائسة المتوفرة آنذاك دخول دورة مضمدين ، تخرج منها ليعمل فترة من حياته في مستشفى الديوانية ، لكنه لم يستمر هناك لفترة طويلة بعد إكتشافه ومجموعة من زملائه سلسلة عمليات فساد ورشوة وسوء خدمات وتجهيزات غذائية مشبوهة إضطرتهم للتقدم بشكاوي الى الجهات المسؤولة للتحقق من الأمر ومعاقبة المفسدين ، لكن شبكة الفساد تلك أستطاعت أن تنفذ من التهم الموجهة اليها ، وتعاقب مثيري الشغب بتشتيتهم الى النواحي والأقضية ، فكان إبعاده الأداري الى قضاء أبي صخير حيث عمل هناك لفترة قصيرة أنتهت والى الأبد بدخوله المعتقل لأول مرة عام 1948.
  • في 15/5/1948 تم إعلان الأحكام العرفية في العراق بحجة حماية مؤخرة الجيش العراقي المتوجه الى فلسطين ، في وقت كانت الأستعدادات للأنتخابات جارية على قدم وساق. ودشنت السلطة حملة إعتقالات واسعة لكل الذين أبدوا نشاطاً ملحوظاً في تلك الأستعدادات ، وكان الفقيد واحداً منهم ، فتم أعتقاله في الديوانية ثم تم ترحيله الى سجن الحلة ، وبعدها الى سجن الكوت ، والذي كان يعدّه جامعة لذوي الخبرات النضالية والثقافية العالية ، وبالفعل حين تم ترحيله الى هناك التقى نخبة متميزة من الشخصيات اللامعة كان أبرزها الرفيق (فهد) سكرتير الحزب وأخرون ممن تركوا في نفسه الأثر الكبير وأرتبط مع الكثير منهم بعلاقات رفاقية وشخصية حتى أواخر حياتهم وحياته هو شخصياً.

  • كان لقائه بالرفيق (فهد) عند وصوله سجن الكوت وأسئلته عن الديوانية والتنظيم الحزبي فيها وبعض الشخصيات ، ما جعله يشعر ومنذ اللحظات الأولى بالأنجذاب اليه وأحترامه ، كما كان لمحاضراته القيمة هناك الأثر في نمو وعيه السياسي وتفتح آفاقه.
  • منذ تلك الحقبة أصبح نزيلاً مستديماً في السجون والمعتقلات حيث تنقل في سجون الديوانية والحلة والكوت ونقرة السلمان وبعقوبة وموقف بغداد المركزي والفضيلية ومنفى بدره وغيرها.
  • وجد نفسه في صدام مع مسؤول السجن بسبب بعض الأجراءات والممارسات الحزبية التي كانت غريبة عن الأعراف الشيوعية في السجون ، الأمر الذي أدى الى فصله من التنظيم في خطوة كانت تشكل خرقاً للنظام الداخلي واللوائح المعمول بها ، وقد تمادت لجنة السجن في سلوكياتها والتي أدت فيما بعد الى إتخاذ أجراءات واسعة شملت فصل ذلك المسؤول ومجموعة من الحزبين الكبار في فترة تولي السيد بهاء الدين نوري لسكرتارية الحزب ، والأمر برمته كان جزءا من الصراع الحزبي المتفاقم آذاك. في بدايات تلك الفترة وجد الفقيد نفسه (بحكم عزله عن رفاقه وهو في السجن بأمر المسوول الحزبي) منضوياً في تنظيم راية الشغيلة ، ورغم أنه كان أحد أقطاب هذا التنظيم وصقوره ، إلا أنه كان يتمنى نهاية ذلك الأنشقاق والعودة الى صفوف الحزب الرئيسي ، وفي كتاب السيدة الجليلة ثمينة يوسف عن سلام عادل تفاصيل مهمة عن كيفية لقاء الشهيد سلام عادل بالفقيد ليلة كاملة لأقناعة بالعودة الى صفوف الحزب وتوحيد تنظيم الراية مع الحزب الأم.
  • ساهم بمعية الشهيد الكبير محمد حسين أبو العيس والفقيد الكبير حسين سلطان في الترتيبات والأجراءات التحضيرية والتي تتوجت بعقد المؤتمر الفلاحي الأول بتاريخ 15 نيسان 1959 والذي حضره الزعيم عبد الكريم قاسم حيث القى فيه خطاباً مهماً ، وألقى الفقيد فيه خطاباً إستأثرا بأهتمام دولي كبير عبّرت عنه الوثائق البريطانية التي كُشف عن بعضها قبل مدة ، كان صدور قانون الأصلاح الزراعي في 30 ايلول 1958 ، وأنعقاد المؤتمر الفلاحي الأول من الأسس التي إدت الى تشكيل الأتحاد العام للجمعيات الفلاحية ، وأنتخابه كأول رئيس له ، في فترة هي الأكثر في زخمها الثوري وأهميتها التاريخية على كل الأصعدة سواء في تاريخ العراق أوالمنطقة.
  • شهدت فترة عمله في الأتحاد العام للجمعيات الفلاحية صراعاً سياسياً حاداً ، كان جزءً من الصراع السياسي والحزبي المتفاقم في البلد ، والذي عبرت عنه السياسة المضطربة للزعيم عبد الكريم قاسم وأجهزته الحكومية. وقد بلغت الأوضاع في كثير من الأحيان حدود الأزمات التي تهدد بإنفجارات غير محدودة الأبعاد ، وقد شهد الأتحاد العام للجمعيات الفلاحية صراعاً دامياً بين تيار الشيوعيين والقوى اليسارية ممثلاً بكاظم فرهود من جهة وبين القوى القومية واليمينة وبعض القوى الوطنية ممثلاً بالمرحوم السيد عراك الزكم من جهة أخرى . وقد أنتهت بعض جبهات الصراع بترجيح الزعيم قاسم لكفة الطرف الأخر والذي أسفر عن ترك الشيوعيين هذا المضمار المهم والواسع النطاق بحكم كون يمثل شريحة الفلاحين وهي الشريحة الاكبر في مجتمع فلاحي زراعي مثل المجتمع العراقي . الأمر الذي ساهم فيما بعد في خلق المناخ وتوفير الأرضية للأنقلاب على 14 تموز بإنقلاب 8 شباط الأسود.
  • سافر الفقيد للدراسة الحزبية في موسكو عام 1962 وبقي هناك حوالى العامين ، كان الحدث الأبرز فيهما هو انقلاب 8 شباط ، وإعتماد خط آب كسياسة للحزب ، عاد للوطن في عام  1964 بعد مكوثه مدة في جيكوسلوفاكيا ، وهو شبه مغضوب عليه بسبب معارضته لخط آب ، وتم تنسيبه للعمل في المجال الديمقراطي ، الأمر الذي عّده نكته سوداء لإنعدام أي هامش ديمقراطي يمكن العمل من خلاله آنذاك .
  • نتيجة للمعارضة الحادة لخط آب في قواعد الحزب وكوادره عقد الاجتماع الحزبي الموسع أو ماسمي بأجتماع الـ 25 في تشرين الثاني 1965 لمناقشة الخطة اللازمة لمواجهة الواقع الجديد وتطوراته ونتج عن ذلك الأجتماع فيما نتج فكرة العمل الحاسم وهي الخطة التي وضعت خطوطها العريضة لأسقاط النظام القائم آنذاك ، وتشكل منها خط حسين الذي تسلم الفقيد مسؤوليته ، وصعوده الى اللجنة المركزية مع بعض رفاقه الأخرين والترشيح للمكتب السياسي.
  • عُرفَ بمحاولاته الدائبة للهروب من المعتقلات والسجون ، وأصبح بعضها جزءً من تاريخ الحزب الشيوعي وفي صدر صفحاته اللامعة ، مثل محاولات الهرب من منفى بدره ، ومحاوله الهرب من سجن الكوت ، والهرب من نقرة السلمان ، ومعتقل الفضيلية وغيرها ، وقد حاول توثيق بعضها في مذكراته ، وكانت معاناة حقيقية حينما كنت أطلب اليه أن يكثف تفاصيل تلك المحاولات لأنها كتابة للتاريخ ، لكنه كان يتجنب ذلك في البداية وطويلاً ، خشية السقوط في براثن (الأنا) والمبالغة والغلو حتى وإن كان ذلك حقيقة . رغم أن الكثيرين كتبوا عن بعض تلك المحاولات وكان دائماً ما كان يقول أن في مايرويه البعض مبالغات وليست حقائق.
  • بعد حدوث إنشقاق القيادة المركزية في 17 ايلول 1967 ، وكان حينها مسؤول سجن نقرة السلمان ، حصلت جملة من الحوادث والمواقف التي دعته الى إتخاذ قراره الصعب بالنسبه له ، وهوقراره بتجميد نشاطه الحزبي ، بعد أن أعيته السبل للأصلاح حسبما يراه ،  في وقت كان الزلزال قد ضرب مفاصل الحزب بسبب الأنشقاق.
  • عانى الأمرّين في فترة السبعينيات ، حين بدأ الموت والأغتيال يطال الكثير من رفاقه ، وكان له موقفه المعلن من رفضه التحالف مع البعث ومسألة الجبهة الوطنية ، وزادت معاناته مع تصفية قواعد الحزب وكوادره في آواخر تلك الحقبة ، وكان منزلنا تحت المراقبة المستمرة ، وتتوجت معاناته برحيل من بقي من رفاقه خارج القطر، حيث تفرق الجميع أيدي سبأ. 
  • عاش الحقبة الأصعب ، حينما كان البلد يغلي وعلى سطح ساخن بسبب الكوارث الجمة ، من الحرب العراقية ـ الأيرانية ومضاعفاتها وغزو الكويت والحرب التي تلتها وسنوات الحصار الطاحنة ، وأخبار فقدان الكثير من رفاقه الذين أحبهم وأرتبط بهم عبر عقود.
  • أستبشر خيراً بأنتفاضة آذار وعدها بارقة أمل كبير، رغم أنتكاستها الموجعة بعد فترة قليلة بسبب السياسات الضيقة الأفق من الأحزاب الدينية والتي حاولت ركوب الأنتفاضة وحرفها بإتجاه أهداف ضيقة  تتجاوز مصلحة الوطن العليا.
  • كانت فرحة سقوط الدكتاتورية في 9 نيسان 2003  متلازمة مع غصة سقوط البلد في قبضة الأحتلال الأمريكي ، وغرقه في بحر لجي من دماء الابرياء ، وقد فقدنا فيه أختنا (خولة) ، فكانت غصة تفري القلب الى الأبد.
  • لم يكل ولم يتوانَ وحاول مع نخبة من رفاق الأمس رغم المرض والأوجاع ومرارة الفقد أن يفعل شيئاً ما ، بدل الندب والشجب والأستنكار وهي اللعبة التي استحلاها البعض للتخلي عن أي التزام أو محاولة للأصلاح ، فساهم في تشكيل الأتحاد العام للجمعيات الفلاحية ، بالأستفادة من كل أخطاء التجربة السابقة وتجنبها ، وبالفعل حاول ورفاقه أن يضم الأتحاد كل الأحزاب العاملة في العراق بدون أستثناء ، وكان من مآثرذلك النشاط هو حضور كوكبة من ذخائر الزمن القديم ، كان منهم الفقيد الكبير عبد الواحد كرم الذي غادرنا في آواخر الشهر الماضي ، والمرحوم عبد الغني الظاهر ، والشخصية الوطنية اللامعة نايف الحسون / أبو طارق متعه الله بالبقاء والعافية وآخرون كثر. لكن تلك التجربة لم يُكتب لها البقاء فدخلت في نفق الصراعات والمساومات الحزبية والأستثار السياسي، الأمر الذي دعا اولئك الذين يحترمون تاريخهم الى الأبتعاد والنأي بالنفس عن منزلقات العهد الجديد وقوانينه التي لاتتفق ومقاييس التضحية والأيثار وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفردية والأرتباطات الحزبية الهامشية .
  • هاجر الفقيد الى السويد عام 2010 بعد أن أصبح وضعه الصحي لايبشر بخير ، وتوالت الأنتكاسات الصحية ومتاعب القلب والعيش بربع كلى ، وغيرها عليه بشكل متوالي ومنغّص ، وساهمت العناية الطبية العالية في السويد بمنحة سنوات أضافية ، كان الزوادة فيها لقاءه بين حين وآخر ببعض رفاقه الطيبين.
  • توقف قلبه عن النبض وغادر دنيانا في الساعة الثامنة وبضعة دقائق من مساء الأثنين السابع عشر من ايلول 2018 فلذكراه المجد والخلود والعزاء والمواساة لكل محبيه.
  • آخر صورة للفقيد والتي نُشرت في 31 آب /2018 أثناء زيارة عدد من رفاق منظمة الحزب في السويد  .وهم السادة الأكارم أبو أبراهيم وأبو جلال والأخ جاسم وجاء مع الصورة الخبر التالي :ـ زار عدد من رفاق منظمة الحزب جنوب السويد القامة الشيوعية والكادر الفلاحي المعروف كاظم فرهود " أبوقاعدة"  لتفقد حالته الصحية  و الاطمئنان عليه . الرفيق أبو قاعدة من جيل الرفاق المناضلين  الذين قدموا الكثير لقضية شعبهم ووطنهم وتحملوا في سبيل ذلك السجن والمطاردة والتعذيب الوحشي من قبل الأنظمة المتعاقبة على الحكم في العراق.