عادل حبه

بقلب مفعم بالحزن رحل عنا جار العمر في المحلة البغدادية العتيقة الفقيد صباح نوري حسن الموسوي عن عمر ناهز الثانية والثمانين. ولد الفقيد في محلة صبابيغ الآل في رصافة بغداد عام 1936. والفقيد ابن التربوي المعروف السيد نوري حسن الموسوي معلم اللغة العربية والدين في المدرسة الهاشمية (الجعفرية) في بغداد. وهو شقيق الفقيد الدكتور ضياء نوري الموسوي الاستاذ في الكلية الطبية في جامعة بغداد ودرس في جامعات البصرة والكوفة والمستنصرية الذي أُغتيل غيلة في المدينة نفسها، وشقيق المهندس السيد علي نوري الموسوي والسيد حيدر نوري الموسوي. درس المراحل الأولية في المدرسة الهاشمية والجعفرية وانهى المرحلة الثانوية فيها، وتقدم للقبول في كلية القوة الجوية التي درس فيها المرحلة الأولى في بغداد ثم تم ارسال دورتهم لإكمال دراسته في الطيران العسكري في بريطانيا. وأكمل دراسته بامتياز على طائرات حربية مختلفة، وعاد إلى العراق قبل بضعة أيام من اندلاع ثورة تموز عام 1958 ليلتحق مباشرة بالقوة الجوية العراقية. بعد اندلاع ثورة تموز التحق مع أقرانه من الضباط الأحرار بنشاط لدعم العهد الجديد والتصدي للمتآمرين عليه. وكلفته القيادة العسكرية بمهمة التصدي للمؤامرة التي نفذها العقيد الشواف في الموصل ضد ثورة تموز وبدعم من دوائر اقليمية ودولية. وتوجه الفقيد بمجموعة من الطائرات الحربية بقيادة الرئيس الطيار خالد سارة صوب مدينة الموصل، وتم قصف الغرفة والمعسكر الذي كان يعتصم بها قائد المؤامرة، مما أودت بحياته وفشلت المحاولة الانقلابية.

التحق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي بعد الثورة، وبسبب حماس ووطنية الفقيد ومهنيته لقى الاهتمام والتشجيع من قبل الشهيد الزعيم جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية العراقية بعد ثورة تموز. وكان الفقيد من بين أول من باشر بالتدريب على الطائرات الحربية السوفييتية الحديثة والتي حصل عليها العراق بعد عقد الاتفاقية العراقية السوفييتية التي تشمل مختلف الجوانب الاقتصادية والعسكرية.

لم يتسنى للفقيد ، كما هو الحال بالنسبة للغالبية من العراقيين، في تحقيق حلمه ببناء الدولة الديمقراطية الحديثة، إذ سرعان ما هبت الريح الصفراء على العراق عند انقلاب 8 شباط عام 1963 ليجد الفقيد نفسه شأنه في ذلك شأن الكثير من العراقيين ضحايا لهذا الاعصار المدمر لاحلامهم النبيلة. وأصبح الفقيد على حين غرة أسيراً مع جمهرة واسعة من خيرة بنات وأبناء العراق، أما في دهاليز قصر النهاية أو في سجن رقم 1 السيء الصيت في معسكر الرشيد الذي احتضن الفقيد مع جمهرة من العسكريين الوطنيين ورجال الفكر والتنوير العراقي. وتعرض كما تعرض أقرانه لهمجية الانقلابيين، وشهد مأساة "قطار الموت" قبل أن يحط به الرحال في سجن "النگرة" الصحراوي الرهيب في صحراء العراق الجنوبية. قضى الفقيد بضع سنوات في سجن الحلة، ليتحرر منه لاحقاً.

سُدّت أمام الفقيد كل أبواب العيش بكرامة في بلده، مما أضطره إلى البحث عن منافذ أخرى لتحقيق طموحاته المهنية. وشاءت الصدف أن يسمع عن حاجة النظام الفتي في اليمن الديمقراطية إلى من يقدم لهم العون في بناء القوة الجوية في البلاد. وتوجه إلى هذا البلد حيث قدم له كل معارفه في مجال الطيران العسكري لبناء قوة جوية فعالة في البلاد. وقد نجح في ذلك واستمر في عطائه لمدة سبع سنوات وحاز على احترام مضيفيه واحترامهم واعتزازهم به، وترك بصماته على المؤسسة العسكرية التي عمل فيها باعتراف الاشقاء اليمنيين أنفسهم.

توجه الفقيد إلى بريطانيا بعد انتهاء عقده في اليمن الديمقراطية. ورغب في تحقيق حلمه وموهبته في دراسة الفن، وفعلاً باشر في الدراسة لفترة ثلالث سنوات، لكنه لم يستطع الاستمرار بها لأسباب مادية. ومن أجل توفير لقمة العيش،عمل في سفارة اليمن الديمقراطية وفي السفارة الليبية كمترجم فيهما. وبعد سنوات عدة تخلى عن العمل وتوجه للاستقرار في الأردن التي ظل فيها لحين سقوط النظام السابق، حيث شد الرحال إلى بغداد مدينته الحبيبة ليستقر فيها لحين وداعه الأخير.

الفقيد صباح نوري هو من طينة ذلك الجيل الذي حلم بعراق مزدهر وحديث يحترم كرامة مواطنيه، عراق يرفل بالعدل والأمان والاستقرار واحترام إرادة الشعب في إدارة شؤونه، وعمل على ذلك بتجرد ونكران ذات دون أن ينتظر ثمناً لمسعاه ولا ثناء. كان الفقيد متعدد المهارات‘ فهو الخطاط البارع في الخط العربي، والرسام والمترجم الدقيق من اللغة الانجليزية إلى العربية، والمتحدث والراواي الذييشد سامعيه وأصدقائه. كريم النفس يسعى بجد لتقديم العون للآخرين ولأبناء جلدته. وتشهد مدينة عدن على تلهف الفقيد صباح على تقديم المساعدة للعراقيين الذين أضطرهم المتسلطين على رقابنا إلى اللجوء إلى هذا البلد الكريم. كان يشدنا ونحن فتيان صغار رواياته للحكايات والأساطير التي كان يسمعها من والدته الكريمة وينقلها لنا بأسلوب تمثيلي جميل. كان وهو في هذا السن يبتدع لنا الألعاب كي نلهو بها في أجواء من المودة والحب الذي يطبع علاقات هؤلاء الفتية. أتذكر سفرتنا المشتركة إلى مدينة الحي حيث كان لولباً ومحوراً للنوادر والفرح وتبادل الأحاديث المسلية.

 لن ننساك أيها الحبيب صباح ، لك منا آيات من الود والاعتزاز، ولترقد بسلام في مثواك الأخير، وستبقى مُثُلِك حية في وجدان وضمير كل من أحبك وعرفك واقترب منك. لك الخلود والعز دوماً، أنت أيها الجندي المجهول في المسار المضني لبلدنا العزيز.

14/9/2018