لا أريد أن أتحدّث عن البصرة وارثها التاريخي ، فالكل يعرف ذلك ، بل كيف كنت أشرب الماء من نهرانها وشطّها، في ستينات وسبعينات القرن الماضي في مدينتي بأقصى جنوب الوجع ، حين كنا نلعب الكرة وعندما نعطش نهرع إلى أقرب ساقية أو نهر لنغترف الماء ونشرب، وأحياناً نكرع الماء مباشرة من النهر ، كان عذباً زلالاً.
كان الأهل يملؤون حبوبهم ( الحب = الزير) من النهر ويتركونها تبرد ، ما أعذب ناقوط الحِبِّ ساعتها، لعذوبة الماء طعمٌ خاص لم يفارقني حتى هذه اللحظة ، ولأن الماءَ عذبٌ زلالٌ كانت الأرض مزدانةً بالخضرة ومظللةً بالنخيل والأعناب ، فكنت تبصر غابات النخيل والكروم والتين والمشمش والرمان والتفاح الأخضر على مدِّ البصر ، و السوابيط في كل مكان ، كان الشارع الممتد بين مركز البصرة وقضاء الفاو محاطاً ببساتين النخيل والأعناب وغيرها ،وكأنك تسير في جنينة مأخوذاً بسحر الطبيعة.
كان الناس يربّون أنواع الدواجن والماشية ، والريف الجنوبي ريف حقيقي بكل ما تعنيه الكلمة.
حتى في ثمانينات الحرب اللعينة كان الماء يجري في الشطِّ عذباً ، لكنّه بدأ يتغيّر وزادت نسبة ملوحته بعد أن غيّرت الجارة إيران مجرى نهر الكارون ، وقلّصت الجارة الأخرى تركيا نسبة الاطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات فصعد المدّ الملحي من مياه الخليج صوب البصرة ، وأخذت الملوحة تزداد يوما بعد آخر دون أدنى بادرةٍ لحلِّ مشكلتها التي صارت كابوساً يهدد حياة البصريين !
في كلِّ صيف ترتفع نسبة الملوحة في الشط ويمتد لسانها حتى يصل شمال البصرة ، ولأن مياه الشرب تؤخذ مباشرة من الشط دون إجراءات التحلية وغيرها ، فقط عمليات تعقيم بائسة وقديمة المعدات والآلات لهذا يعاني البصريون ملوحة ماء الإسالة وعفونته ، بل عدم صلاحيته لكل استعمال سواء كان بشريا أم زراعيا.
معامل التحلية لم تكن ذات تكاليف عالية بحيث استطاع بعض التجار أن يشيّدوا معامل لتحلية الماء وبيعه منذ التسعينات ، إضافة إلى محطات التحلية في الشركات الصناعية والنفطية العملاقة ( البتروكيمياويات ، الأسمدة ، الحديد والصلب ، الورق ، النفط وغيرها).
هذا يعني إنّ محطات التحلية لا تكلّف شيئاً أمام مليارات الدولارات التي هدرت نتيجة الفساد والضمائر الميتة ، فالمسؤول الذي يرتضي أن يموت الناس والزرع والضرع بسبب ملوحة الماء لا يمكن أن يكون ضميره نقياً أبدا !
ولأجل أن نكون أكثر صراحةً ، قبل أن تتأسس دول الخليج بعشرات السنين كان البصريون يقومون بعمليات التقطير ، فكيف بهم الآن وهم يرون مسؤوليهم يمدون اكفهم لهذه الدول عسى أن تتلطف وتمنحهم الماء العذب الذي تقوم بسحبه من البحر وتحليته.
أما كان الأجدر بنا أن نشيّد محطات تحلية في رأس البيشة ( جنوب الفاو ) ونمدّ أنابيب الماء الحلو الصالح للشرب إلى كل مكان ، ونصدره الى الخارج أيضاً؟!
الانتماء الحقيقي للوطن والناس يجعلنا نعتصر ألماً ونصنع من ألمنا حياةً سعيدةً للآخرين!