في طفولتي التي عشتها هناك في أقاصي جنوب الجنوب ، وفي أيام الشتاء، كنّا نتجمع حول الموقد ننشد الدفء ، ونستمع إلى حكايات أمنا العودة ــ زوجة أبي ــ حيث كانت تقصّ علينا حكايات تجعلنا نسرح معها في خيالات وأماكن كثيرة . ومن حكاياتها كنّا نستمدّ العبرة والحكمة وسبل العيش في هذه الحياة !
ذات يوم حدثتنا عن قرية كان يحكمها شيخ كبير أحاط نفسه بحاشية عاثت في القرية فسادا وراحت تعمل لمصالحها الخاصة فقط، فيما الشيخ في سابع نومة. فانعدم الزرع وصار الناس يشترون الخضار والفاكهة من قرى أخرى ، وتوقفت النسوة عن الصناعات الشعبية التي يقمن بها لانعدام المواد الأولية وجفاف الضرع، فصرن يبتعن حاجياتهن من القرى المجاورة أيضا . تردّى كل شيء وعمّ الخراب والفساد والقبح وساد الظلام والفقر والجهل في ربوع القرية ، فجزع الناس وأصابتهم الحيرة والنفور من فساد هذه الحاشية المتنفّذة والمسيطرة على كل الأمور. تمرد البعض وصاروا يقفون أمام باب الشيخ مطالبين بحلٍّ إصلاحيٍّ لما آلت إليه الأمور، وكان الشيخ يعدهم بالعمل على اصلاح ذات البين لكن كلام الليل يمحوه النهار !
كثرت المطالبات والوقفات فطلبوا أن يعقد جلسةً لانتخاب من يروم العمل في حاشية الشيخ وتشكيل حاشية جديدة. فأعلن الشيخ لمن يريد العمل أن يرشّح نفسه وحدد يوما للجلسة.. رشّح أفراد الحاشية الحاليين ومعهم آخرون ، وما أن جاء اليوم الموعود حتى حضر نفر قليل ممن كانوا يطالبون بالتغيير ، وتخلّف البعض الآخر بحجة واهية وهي إنّ الشيخ لن يغير زبانيته ، بل سيلعب بالأصوات ويحصرها لربعه ويظل الأمر كما هو عليه. استطاع النفر القليل الذين حضروا أن يغيروا البعض ويأتوا بأشخاص يعرفون نزاهتهم وكفاءتهم وحبهم للقرية وأهلها !
تذكرت حكاية أمي العودة ، وأنا أتحدث عشية يوم الانتخابات مع احد الأصدقاء العازفين عن التصويت بحجة أنّ الفاسدين لن يتغيروا أبدا !
نعم لن يتغيروا إذا أنت وأمثالك تتركون أماكنكم لمن يصوّت لهم طبعا!
نعم بعزوفك ومقاطعتك تركت فراغا سدّه أتباع من تريد تغييرهم، لهذا نجحوا وأنت خسرت !
كان من المفروض أن تخرج وتصوّت لمن ترى فيه النزاهة والأمانة والإخلاص والوطنية في العمل وخدمة الناس، ومن غير المعقول أن تخلو قائمة ما من أمينٍ ونزيهٍ ووطنّي!
الذين قاطعوا الانتخابات رغم تحفظي على رأيهم إلاّ إنهم اخطأوا هذه المرة وكان خطأهم جسيما حيث أفسحوا المجال لمن كسب مقاطعتهم لصالحه طبعا !
يا أخي مقاطعتك أعطت صوتا لمن تريد تغييره، فكيف ستقف بعد ذلك وتنتقد فساده وتطالب بإصلاحه وتغييره وأنت أعطيته الفرصة بالبقاء؟!