كم من القرارات التي صدرت عبر التاريخ وفي أماكن شتى، راح ضحيتها العديد من الأبرياء والمخلصين والنزيهين الشرفاء؟! وكم منها خرّبت مدناً وبلداناً وأماتت ضمائر كثيرة ؟! وكم استفاد منها مَنْ لا يستحقّها أبداً ؟!
أحمد جاسم محمد، الشاعر والإنسان الذي غادرنا قبل أيام حاملاً ظلامته في قلبه جرّاء ما عاناه من عنت وغبن وإجحاف.. الرقيق المهذّب الذي تشرّب وامتزج بحب الوطن والناس، وحملهما نذراً للدفاع عنهما في سبيل الحرية والسعادة ، مدرّس الأحياء الذي ترك عمله في إعدادية أبي تمام هارباً من بطش النظام الفاشي في صيف عام 1979، حينما اشتدّت الهجمة على الوطنيين، وبدأت حملات التصفية الجسدية والمضايقات والاعتقالات، ويعبر الحدود قاصداً الجزائر، ليبدأ رحلة الغربة والمنفى ما يقارب 24 سنة، يعمل خلالها في الحقل الثانوي في الجزائر ويتزوج هناك ليكوّن أسرةً، ثم في ليبيا لحد عام 2003، عاش بعيدا عن عشقه الأزلي الوطن، يمنّي النفس بالعودة، وما أن سقط النظام المقبور حتى يحمل نفسه وعائلته عائدا، يحدوه الأمل بحياة جديدة ملؤها الأمان والاستقرار والسعادة.
لكنّه اصطدم بقرارات فُصِّلت على مقاساتٍ خاصة، وسُنَّت لأصحابها المشرِّعين ومواليهم فقط، لا لمن ذاق مرارة الخوف والغربة والعذاب هنا أو هناك !!
عاد إلى التعليم عام 2004 ، وبعد صدور قانون الفصل السياسي، تقدّم بمعاملته لاحتساب خدمته وهي 24 عاما، لكنها لم تحتسب في بادئ الأمر بحجّة ضياع المعاملة، فتقدّم بملفٍ آخر مؤيداً من الجهات ذات العلاقة، وكان تقدير الجهات المختصّة أن المعاملة مستوفية الشروط، لكن لجنة التحقق في الأمانة العامة لمجلس الوزراء قرّرت عدم شموله باعتبار هجرته إلى الجزائر وليبيا لغرض العمل متناسيةً أن الكثير من العراقيين خرجوا هاربين من البطش والقمع السياسي آنذاك.
وعند استئنافه المعاملة مرة أخرى أصرّت اللجنة على موقفها في عناد متزايد وبلا مبرر، فتقرر إحالته على التقاعد براتب الحد الأدنى ، وتضمينه مبلغا قدره خمسون مليونا عن مخصصات ورواتب لا يستحقّها حسب رأيهم لصالح وزارة التربية، مما عصف بحالته المعيشية والنفسية، فظل يعاني مرارة الإجحاف ويكتم في قلبه حتى سقط من ثقل الظلم هذا ميتاً.
يا للخسارة، لقد قتلوا مبدعاً بلا مبالاتهم وإصرارهم على الخطأ !
!