تعتبر التجارة الدولية عموما والتجارة مع دول الاقليم خصوصا مؤشرا جوهريا على قدرة الدولة الانتاجية والتنافسية في السوق الدولية، وارتباط هذه المؤشرات بالامكانيات الانتاجية المتاحة وقدرتها التصديرية ومستوى دخول الافراد والقدرة الاستيرادية، وانعكاس ذلك كله على رصيد الدولة من العملات الصعبة سلبا او ايجابا، وكذلك على الميزان التجاري.
لقد شهدت العلاقات الاقتصادية مع دول الاقليم في العقود الاخيرة سلسلة من التوترات السياسية وغياب الامن بسبب نهج الهيمنة والتسلط الذي تمارسه دول المنطقة جراء الاختلاف في المواقف الجيوسياسية التي تتبعها حكومات تلك الدول، والتي انتهت الى حروب مدمرة احيانا، والى اتباع منهجية الهيمنة الاقتصادية احيانا اخرى، بتأثير عوامل سياسية بمضامين طائفية، او مخرجات صراع الدول الكبرى للهيمنة على مصادر الطاقة والاسواق في هذه المنطقة. هذا بالاضافة الى عوامل اخرى تؤثر على مستوى التبادل التجاري بين العراق ودول الجوار المتمثل بالتفاوت في مستوى التطور الاقتصادي، حيث تشهد بعض هذه الدول مشاكل في اقتصادياتها وضعف هياكلها الاقتصادية، فهي في الوقت الذي تركز اهتمامها على انتاج النفط وتصديره تكون، في الوقت ذاته، بحاجة الى انواع متعددة من السلع لا تنتجها دول المنطقة، بل تستوردها من دول اخرى كالسلع الزراعية والمواد المصنعة والتكنولوجيا الحديثة.
ولم يكن العراق بعد التحولات السياسية في عام 2003 خارج دائرة الصراع في المنطقة، ولم تتوقف دول الجوار عن محاولة الهيمنة على السوق العراقية واستثمار حاجاته الى السلع الاستهلاكية التي افتقدها خلال الحروب والحصار الاقتصادي، وخصوصا من قبل ايران وتركيا، فقد زاد حجم التبادل التجاري لهما على عشرة مليار دولار، مستغلتين التدهور الامني في البلاد وحاجة الدولة الى دعمهما في تحقيق الاستقرار، وهشاشة دور الادارة الاقتصادية والمالية، وطغيان الفساد والهدر المالي، وتحويل الموارد المالية المتاتية من الريع النفطي الى عملية استيراد استهلاكي فوضوي. كان لدول الجوار حظوتها في هذه السياسة، فيما كانت السعودية، وهي لاعب اساسي في المنطقة، خارج هذه العملية الا في السنوات الاربع الاخيرة التي شهدت اعتدالا نسبيا في الموقف العراقي، وتبدلا في اجراءاته المالية تتمثل في تفعيل الاجراءات الكمركية وتقدم نسبي في الاجراءات الحمائية التي كانت مجمدة لأكثر من عشر سنوات.
على ان العراق قد اعار بعض الاهتمام لاعادة رسم العلاقة مع دول الجوار، ففي عام 2013 طرح مشروع شبكة خطوط برية وسكك حديدية تربط العاصمة بغداد بعواصم الدول المجاورة بهدف تعزيز التبادلات التجارية مع هذه الدول، لكن هذا المشروع، حاله حال المشاريع والخطط الخمسية، لم يجد اية فاعلية في التنفيذ بسبب عدم ارتباطه بخطة استرتيجية اوسع ترتبط برؤية اقتصادية متفق عليها مع دول الجوار، وقدرت تكاليف المشروع بـ 30 مليار دولار، فيما قدرت حصة العراق من هذه التكاليف بـ 10 مليارات دولار، وتتحمل الدول المجاورة بقية التكاليف، مع ان العراق كان بامكانه في هذه الفترة تحمل تكاليف المشروع داخل اراضيه بسبب الفورة النقدية الناتجة عن ارتفاع اسعار النفط.
وفي الفترة الاخيرة حيث تركز السعودية على تطوير استثماراتها في العراق، خصوصا بعد مؤتمر الكويت المنعقد في اذار الماضي والزيارات المتبادلة بين المسؤولين في اعلى المستويات، وقيام العديد من رجال الاعمال السعوديين بزيارة محافظة البصرة والنجف والاطلاع على مشاريعها الاستثمارية وامكانية مساهمة الشركات السعودية في الاستثمار في هذه المشاريع وغيرها من المشاريع العراقية، اضافة الى تنامي التجارة السعودية في الفترة الاخيرة، كل ذلك يؤشر على تنامي العلاقات بين البلدين. في هذا الوقت اعرب العديد من المسؤولين الايرانيين عن مشاعر الاحباط من الاجراءات التي تتخذها الحكومة العراقية في فرض رسوم كمركية عالية على البضائع الايرانية ومنع المنتجات الزراعية من الدخول العراق وتعرضها الى التلف.
ان الحاجات الاساسية المشتركة لدول المنطقة تتطلب التنسيق فيما بينها على أسس تكاملية والابتعاد عن انتاج سلع متشابهة تزيد عن حاجة السوق المحلية، مما يدفعها الى الدخول في منافسة حادة لا تصب في عملية التنمية الاقتصادية وتحسين العلاقات الجيوسياسية، وتبقي على التوترات التي شهدتها لسنين طويلة.
وحيث يتوجه العراق الى اعادة ترتيب بنيته الاقتصادية وتحديد افاق التنمية مما يستدعي مراجعة شاملة لسياسته الاقتصادية وفحص امكاناته الذاتية في هذه العملية الاستراتيجية، وفي ذات الوقت تقدير حاجة السوق الداخلية الى التعاملات التجارية مع دول الجوار خاصة ودول العالم عامة، والابتعاد عن سياسة المحاور ودائرة الصراع بين دول المنطقة التي لم يجن العراق منها غير التخلف الاقتصادي والتوتر السياسي الداخلي ودخول الارهاب وتدمير البنية التحتية والطاقة البشرية، وبهذه السياسة المتوازنة سيكون العراق رافعة مهمة في تحقيق الامن والسلام في المنطقة.
وقفة اقتصادية.. المعادل التجاري مع دول الاقليم
- التفاصيل
- ابراهيم المشهداني
- آعمدة طریق الشعب
- 2012