يرى المراقبون والمتتبعون للشأن السياسيين، أننا إذا غضضنا النظر أو صرفناه عما يدور في الغرف المظلمة البائسة من تكالب، فإننا سنقع في المستنقع عينه الذي استغرقنا ستة عشر عاما وستكون الأضرار أشدَّ فداحة، وإنّ التشبث بمشاعر المجد الضائع، وتقولات المظلومية ستقودنا إلى مزالق هاوية أكثر عمقا. وإذا كان هناك من يروج لتخريجات، من مثل " هيّه ما لتنه، وصارلنه 1400 سنة مظلومين " فإنا أشكك بجدوى الرأيين. فما عاد مفهوم التخندق ضد الآخرين مقبولا.
ولكي نقف على خطورة هذه المواضعات وتداعياتها ، ينبغي الاقرار بوجود الآخر المختلف ، فهو ليس كما يروج له في الصحافة الصفراء والفضائيات المشبوهة، لانهم باختصار اصحاب حق ومطالب مشروعة ، فمن يدعو إلى فرصة عمل ، وأن تكون بلاده مستقلة ، ليس بالضرورة عميلا للموساد أو الاستخبارات الأمريكية. ويعني هذا الدعوة للنظر بجدية إلى مطالب المتظاهرين الواقعية.
فمن المحال بقاء الحال على ما هو عليه ، وعلينا استلهام الدروس من التجارب التاريخية. ذلك ان دينامية الحياة ترفض التوقف، وهي في حراكها تتبدل باستمرار ، ومن يحاول ايقافها واهم ، وهذا يتطلب منكم أن تسألوا أنفسكم ، لم أنتفض هؤلاء الشباب ؟ ولم استمرت الانتفاضة أربعة أشهر، وقد تستمر أربعة أشهر أخرى، وإذ ذاك سيتضاعف عدد القتلى والجرحى والمعاقين، وفي النهاية سترضخون مجبرين على مطالب المنتفضين بعد أن أصبحت مطالب المواطنين كافة.
إن السؤال الجوهري في هذا المقام بعد الإصرار على رفض السيد محمد توفيق علاوي من لدن المتظاهرين هو: هل يرضخ لمطلب الجماهير الرافضة له كما رضخ سلفه مكرها؟ هناك مفاجآت مرتقبة ممكنة الوقوع، وقد تكون غير سارة لمن يمنّي نفسه دخول التاريخ حتى لو امكن ذلك من خلال النافذة، في حين كان من الأولى البحث عن السبل الكفيلة بدخول التاريخ من أوسع أبوابه. ما أريد قوله: أنّ النزوع المتطلع لفرض سياسة الاقرار بالأمر الواقع، قد لا تجدِ نفعا ولا تجد طريقا ممهداً. ويمكن تلمّس هذا التوجه الرافض للانصياع المتطلع إلى إبرام عقد خارج السياق، بعد تكشّف أحابيل التسويف والمماطلة، والسعي للالتفاف على مطالب المتظاهرين وافراغها من محتواها الوطني والتي لم تعد خافية على أحد. فرئيس الوزراء المكلف يقول: " الشعب انتخبني "، وهذا يذكرنا بمقولة الملوك والأباطرة ممن كانوا يحكمون الناس باسم التكليف الإلهي. إنّ الدوران حول الحقيقة مسألة غاية في الخطورة، والعارفون بالشأن السياسي يقرّون إن ليس بالإمكان حل المعضلات السياسية بفرية مفضوحة. ويعرفون ايضاً إنّ " الشمس لا تحجب بغربال ".
والغريب في الأمر، إنّ السيد علاوي منهمك في تشكيل كابينته ويغدق الوعود هنا وهناك. وكان الأجدر به أن يتابع القنوات الفضائية المحلية والاجنبية، ليرى حجم الرفض له في ساحات بغداد والفرات الأوسط والجنوب، وإذا كانت هناك تطمينات له بإسكات أصوات المتظاهرين الرافضين بمختلف الطرائق، فعليه أن لا يركن اليها، وما الحكمة في أن يكون المرء رئيسا للوزراء بأسنة الحراب. في الوقت الذي نظر فيه الشارع السياسي باحترام إلى تصريحك، وأنت عائد من لبنان، بأنك لن تقبل ترشيحك لهذا المنصب اذا كان هناك رفض له. كم كان حريُّ بك أن ترفض الترشيح، وان لا تستمع لعبارات الاغواء وتلك التطمينات من هذا الطرف أو ذاك، وأنت على دراية تامة بمعايير المنتفضين والمرجعية، ولكن تملكتك النشوة والزهو وأنت تروم الدخول بنفق التاريخ (المظلم)، ونسيت دماء 600 شهيد وقرابة 25 ألف جريح ومعوق، وهذا هراء .
هناك مثل شعبي عراقي قديم يقول: "إمشي شهر ولا تطفر نهر" كناية عن خطورة المياه، ولكني أقول لك كما قال الشاعر: " لو صادف بدربك نهر .. أطفر ولا تمشي شهر"
فلماذا تمشِي شهرا ما دام بإمكانك تجاوز ما أنت فيه من موقف عضال لا تحسد عليه، بطفرة صغيرة؟

عرض مقالات: