قد لا يكون خارج المنطق او مما يجانب الحقيقة ان نصف تظاهرات العراقيين منذ اول تشرين الأول بالسلمية. وهذا على كل حال ما شهد له الأعداء قبل الأصدقاء. أما من يتقولون عكس ذلك فهم ممن يسعون إلى اخراجها عن طابعها، ويحاولون أن يبعدوها عن منطق التاريخ.
لقد مارس المتظاهرون قدرا كبيرا من الانضباط كي لا تفقد تظاهراتهم سمتها السلمية، وقدموا تضحيات جسيمة ثمنا لذلك، في الوقت الذي تهاوت فيه دعاوى الأفاكين ومزاعمهم، وهم يعملون على افتعال الذرائع التي تكفل لهم لا مجرد الانقضاض على سوح المتظاهرين، وإنما ايضا لدفع البلاد الى اتون حرب لا أول لها ولا آخر، بما يتيح لهم البقاء متشبثين بمواقعهم وبزمام الأمور.
وهذا ما تؤكده مساعيهم المحمومة وأساليبهم المتنوعة لإخراج التظاهرات عن مسارها، ومراهناتهم على انتهائها.
لكن أساليب التهديد والوعيد لم تُجدهم نفعا، ولا الاعتقالات التعسفية والاختطافات، ولا القتل سواء بالرصاص الحي أو بالسلاح الأبيض. بل ولّد هذا رفضا وتحديا اشد من جانب المتظاهرين، وردود فعل دولية شاجبة ومنددة، وإقبالا متزايدا من جانب جماهير الشعب، التي ظلت تتدفق على ساحات الاحتجاج بصورة موجات متصاعدة متعاقبة في ارجاء المحافظات المنتفضة الصامدة وعلى مرأى من العالم كله.
لم تتأخر فئة عمرية، او مهنية، او قطاعية في الاستجابة لنداء الوطن والشعب، ولم تقتصر المشاركة على بنات وابناء جنس معين، أو مذهب، أو قومية، أو دين. وسقطت الرهانات على عوامل الزمن حينا والظروف الجوية حينا آخر والتعب والملل آنا ثالثا وغيرها، في فض الانتفاضة واجبار المنتفضين على اخلاء ساحات التظاهر السلمي. واضطر الحكام بمختلف تلاوينهم منصاعين إلى الاعتراف علنا بمشروعية مطالب المتظاهرين وعدالتها. فقد فضحت التظاهرات حقيقة نهجهم وخطورته على مختلف الصعد، وكشفت عن بؤسهم وخوائهم فكريا وثقافيا، وهو ما عكسته أساليبهم الدموية في التصدي للمنتفضين.
وهكذا وفي الوقت الذي كان فيه الشباب العزل يواجهون الرصاص الحي بوجوه وصدور عارية، كانوا هم (وما زالوا) يستخدمون اللثام، ويتحركون وسط الظلام، في مسعى مسعور وفاشل للحد من تدفق المتظاهرين في ساحات التظاهر والتصدي والثبات، ولاجبارهم على انهاء انتفاضتهم الباسلة المشرفة.
لو كان مشهرو اسلحة القمع هؤلاء اصحاب حق، لما خافوا ولما لجأوا الى القمع. ولو كانوا اصحاب قضية لجاءوا بحججهم ولم يتخفوا. لكنهم يعلمون افضل من غيرهم طبيعة وحجم ما اقترفوا ويقترفون، وانه مما يُدان ويُستنكر ويُلاحَق مرتكبوه ويعاقبون.
بعد اللثام والظلام ستحل ساعة الحساب، وسيحاولون التواري عن الانظار، لكن العدالة ستبقى تترصدهم، وستنزل بقبضتها عليهم ولو بعد حين.
انه منطق التاريخ الذي لا يمكن الوقوف بوجهه.