في ذلك اليوم الحزين الدامي والمليء بصرخات وصيحات المتظاهرين الذين جوبهوا بالعنف والقمع الدموي، حيث سقط العشرات منهم شهداء ومئات اخرون جرحى، قام رفاقه بعميلة تفتيش دقيق في طيات ملابسه وجيوب بنطلونه المتهرئ، فلم يجدوا غيرها (خمسمائة دينار). دهش الملتفون حوله ونظرات عيونهم اتجهت صوب من وجدها، وبصوت مبحوح وعال  وأجاب: "حقا فقط لا غيرها، لا دليل لا هوية " 

حكت تلك الورقة النقدية قصصا وحكايات عن بطولات واوجاع شباب حلموا بوطن آمن يعيشون فيه بسلام دون عوز او فقر او جوع او مرض!

كانت الورقة أجرته للرجوع الى بيتهم الواقع في منطقة "الحواسم" والذي يضم والدته وأخواته الخمس وربما الست او السبع بنات. لقد استدانها من جاره صباحا لكي يرجع لمنزله ليلا، حيث تنتظره والدته على العشاء البسيط الذي تعده بنفسها مع قوري الشاي الساخن وكسرة الخبز. ستقف طويلا قرب الباب هذه الليلة بانتظار وحيدها، وستدور في خاطرها الهواجس حينا وحينا اخر الذكريات. وستصبر نفسها بالقول " سيأتي الآن او بعد برهة" ثم تعود لتسخين الشاي والخبز  وهي في قلق، وعندما تطرق سمعها طقطقة باب دارها الحديدي المتهالك، ستهرع بلهفة ظنا منها انه رجع ، وهي تعرف بانه حين يعود يقفز من فوق الباب لكي لا يزعج اخواته النائمات.

لكن الليلة ستكون الرياح هي من تطرق الباب.

انها نفس قصة العامل البسيط الذي يجلب لأهله الفطور والصمون الساخن صباحا، ليجتمع مع اخواته قبل ذهابهن لمدارسهن، حيث يتوافدن تباعا على المائدة، فتحلى سوالفهن الممزوجة بضحكاتهن البريئة معه.

وعن قصة الام التي تحب ولدها حد الجنون، وكثيرا ما تناديه: حبيبي، سَندي، عزي وفخري، ابن امه اللي ما نزّل راسي، فمن عادات النساء الجنوبيات التغزل بأبنائهن الشباب.

وتحكي قصة شباب بلا عمل، بلا مورد، في ظل كثرة المسؤوليات، وعن قصة حب لم تكن نهايتها سعيدة، وعن انتشار امراض بلا علاج حين يشح الدواء في المستشفيات، وعن جور وظلم الحكومات لأبناء الشعب حين يطالب بحقوقه، وعن ضعف خدمات وتدني تعليم، واندثار صناعة وتردي زراعة، وعن محاصصة وطائفية وقتل على الهوية.

حينها صرخ الدم معاتبا: ماذا تفعلون وتسألون عن القطعة الورقية التي تتباهى انها خمسمائة دينار في جيب ابن الناصرية، اليس الدم كفيلا بان يثبت الهوية؟ انه ثائر سلمي شهيد من ابناء الناصرية.

لململت القطعة نفسها في يد من وجدها فطواها واعادها الى جيب صاحبها الشهيد، وقال لزاما عليها ان لا تفارق صاحبها حتى الكفن.

وكانت أصوات المكبرات في الجوامع تتحدث عن حاجة المستشفى الى نعوش إضافية بسبب نفادها في المدينة المنكوبة.

عرض مقالات: