كان هذا أحد أسئلة الحداثة بعد ثورات 1848 في باريس، وصدور البيان الشيوعي، وكان الإرث المتداول في هذا الصدد يعود إلى آدم سميث وسان سيمون، اللذين أشاعا مفهومين: أحدهما  عند انحلال العلاقات الإقطاعية والطبقية، ستتولى الرأسمالية مدفوعة بقانون السوق – حسب آدم سميث، أو بقوة المجتمع حسب سان سيمون -  بجلب خبرات الحداثة إلى الجميع"، والثاني أن تجذير العلاقة بين الثقافة ومشروعات الحداثة يمكنه أن يصوغ رؤية المثقفين الحداثية.

 ويحلل ديفيد هارفي  هذه الوضعية عندما يشير إلى أن ماركس وأنجلز قد رفضا بقوة هذه الفرضية الأولى، خاصة وأن القرن التاسع عشر شهد "انقسامات حادة افرزتها التناقضات الطبقية التي انتجتها الرأسمالية"، وكان السؤال المحوري من يتحمل اطلاق مشروع الحداثية وتوجيهه، البرجوازية أم الحركة العمالية؟ وبالتالي وراء من يقف منتجو الثقافة؟

وكان هذا هو سؤال التوجع الثاني الذي ما زال مفتوحا على البحث.

لاشك أن أسئلة القرن التاسع عشر، لن تعود نفسها أسئلة القرن الحادي والعشرين، ولا أسئلة القرن العشرين، كما أن أوضاع أوربا بعد عصر النهضة والثورة الفرنسية وصدور البيان الشيوعي وانتشار الحركات الإشتراكية الطوباوية، لم تعد هي الأوضاع نفسها، في أسياء والشرق الأوسط، وفي بلدنا الذي يمثل نموذجًا للحراك الفكري والاجتماعي.

لم تدرس العلاقة بين المثقفين والطبقات الإجتماعية في مجتمعنا دراسة خاصة، ونعود باستمرار إلى دراسة حنا بطاطو التي نعتبرها من أكثر الدراسات وضوحًا ومنها ما يخص دور الانتلجنسيا العراقية في الحركة الاجتماعية، ومع ذلك يبقى السؤال مفتوحًا على التباينات التي افرزتها علاقة المثقفين بالفئات  التي هيمنت أديولوجيا على السلطة في العراق. وهذه التباينات أخلت كثيرا برؤية المثقفين للأوضاع، وأول ملاحظة أن المثقفين العراقيين شكلوا طليعة فنية واجتماعية ولكنهم لم يشخصوا بعناية أنهم كانوا غير قادرين على التمييز بين الفن الدعائي السياسي المباشر وبين توجهات الحركة الثورية واليسارية ثقافيًا، بحيث يمكن عدّ إنتاجهم الثقافي يتوافق وطموحاتهم الوطنية، صحيح أننا حينما ندرس إرث غائب طعمة فرمان، وعبد الرزاق الشيخ علي، ورشدي العامل، وابو كاطع، وعدد كبير من مثقفي اليسار العراقي، بما فيهم الاكاديميون واستاذة  الجامعات والمدرسون وخريجو الجامعات الأجنبية، لا نجد لديهم مشروعًا ثوريًا ونهضويًا للثقافة، ولا ثمة برامج اتسقت مفرداتها مع طبيعة إنتاجهم الأدبي والفني، هذا ليس خللا في منظومة المثقفين اليساريين، ولا في طبيعة ابداعتهم، وإنما لأن طبيعة المجتمع العراقي لم تفرز تباينات طبقية واضحة وفاصلة بين الرأسمالية والبرجوازية الوطنية والطبقة العاملة، الأمر الذي جعل المثقفين موجودين في كل شرائح الطبقات الإجتماعية، يجمعهم هدف تنويري واسع، لقد كانوا يساريين بتوجهات وطنية، وشخص انتاجهم جانبا من الصراع الإجتماعي والطبقي، ودخلوا السجون بناء على إنتماءاتهم ومواقفهم،ولكنهم لم يؤسسوا برنامجا ثقافيًا تنويريًا يجري العمل في ضوئه، إلا بعد سقوط النظام ظهر المشروع الوطني للثقافة، وعقد مؤتمر خاص وانتج ورقة عمل متميزة، ولكن هذا المشروع  بقي مناسبيا، يطرح  في حلقات متباعدة ولم يفعل لانه يرتبط اساسا بقوى إنتاجية ليست بيد مشرعي البرنامج. فاصبح جزءًا من مشروعات مطلبية.

ماذا حدث بعد ذلك؟ من يتتبع مسار العلاقة بين المثقفين ومتغيرات السلطة، نجد شرائح واسعة من المثقفين انتموا الى السلطة، وانخرطوا في مشروعها السياسي، والقلة النوعية هاجرت أو صمتت أو تنحت عن الظهور، وهذا الوضع يعد أول فرز حقيقي بين شرائج المثقفين العراقيين، وستتكرر المواقف نفسها عندما تتغير السلطة، سنجد شرائح من المثقفين تلتحق بمشروع هذه السلطة أو تلك. ويبقى السؤال قائما: وراء من يقف منتجو الثقافة؟

عرض مقالات: