هناك مثلٌ شعبيٌّ يقول: إذا كُبر ابنكْ خاوييه! بمعنى إذا شبّ ابنكَ كُنْ له صديقاً لا أباً، كما إن الأمام علي (ع) قال: لا تجبروهم على التطبّع بطباعكم لأنهم يحيون لزمانٍ غير زمانكم! يعني أن تفكيرهم وأسلوب حياتهم يتغيّر بتغيرات الزمن وطبيعة العيش. لهذا علينا أن لا نندهش ونُفاجأ بكلِّ ما نراه ونسمعه ونعيشه هذه الأيام من أفعالٍ وأعمال بطولية يقوم بها شباب لم تتخطَّ أعمارهم الخامسة والعشرين، بل نقف متأملين صنيعهم هذا بروح التلميذ الذي يصبو إلى معرفة المزيد من كل ما يجري حوله!
نحن الذين خسرنا سنوات كثار، وعشنا في زمنٍ جائرٍ تحت نير حكمٍ دمويٍّ قاسٍ لم يترك لنا مجالاً للتفكير، كانت أداة بطشه وعنفه وجبروته ثقيلةً جداً، ما ترك آثاره الجسيمة على أجسادنا وفي نفوسنا، وجعلنا محبطين نشعر بالقلق والخوف والتردد كلّما أقدمنا على قولِ أو فعلِ شيءٍ ما!
لكنّ أبناءنا الشباب الذين استشعروا هذا الهاجس فينا، أرادوا أن يعطونا دروساً كي نتخلّص منه بشتّى الوسائل والطرق!
عشنا ظلم وبطش الدكتاتورية الفاشية، وتنفّسنا الصعداء بسقوطها، لكنّ فرحتنا تلاشت حين عمّ الفساد والمحاصصة والطائفية، فصرنا نلوك الهمَّ ونبتلع الأسى، ونفرك القهر ونضرب أخماساً بأسداس على عمرٍ ضاع بلا أدنى فائدة. ومعاً أعاد لنا أبناؤنا الثقة بالمستقبل، والقوة والعزيمة في الإقدام، والعمل على ردع الفساد بكل أشكاله!
تعلّمنا من الشباب في انتفاضتهم هذه أشياء كثيرة، أولها الإحساس الحقيقي بالوطنية، حيث فقدها الناس، وصار الانتماء إلى العشيرة أو المذهب أو الطائفة قبل كل شيء. فحينما نزلوا بصدورهم العارية إلى الشوارع والساحات يرددون: نريد وطناً، أعادوا للوطن مكانته وهيبته في نفوس الجميع ، بعدما ضيعتها الحكومات الفاشية والدكتاتورية والفاسدة !
كما علّمونا أنّ الوقوف بوجه الفاسد والظالم مهما كان ردّ فعله، أسمى وأجلّ من كل وقوف!
وعلّمونا الإيثار والمحبّة ونكران الذات والعمل بكل إخلاص على اصلاح ما خرب وفسد، فغيّروا المثل المتداول (لا يصلح العطّار ما أفسد الدهر) إلى أن الإنسان الحقيقي والمؤمن بقضيته ووطنه يُصلح كلّ ما فسد بإصراره وعزيمته ومحبته للناس والوطن!
وعلّمونا أن الانتماء الحقيقي للوطن يجعلك مهاباً ومحترماً عند الجميع ويُحسَب لك ألف حساب!
وعلّمونا أن الشباب طاقةٌ خلّاقةٌ من خلال عملهم رغم ما يلاقونه من عنفٍ وبطشٍ سلطوي، في إعادة الحياة إلى الشوارع والساحات والبنايات والحدائق والنافورات والسلالم، بهذه الروح الشبابية الخلّاقة نستطيع أن نعيد الحياة إلى كل آلة ومعمل ومصنع وحقل وبستان وسفينة ونحوّل الصحراء إلى حدائق غنّاء!
تعلّمنا منهم الكثير، ما علينا سوى أن نقف إجلالا وإكبارا لهم وندعمهم كي يبنوا الوطن!
على جميع مَنْ يتصدى للمسؤولية في الدولة حالياً ولاحقاً أن ينتبه لهم ويوقفَ بطشه وعنفه، ويفتح الأبواب مشرعةً لهم، لأنهم جيلٌ خلّاقٌ وبنّاء، وإذا منحناهم الفرصة سيبنوا عراقاً مزدهراً متقدماً ترنو إليه الأفئدة والعيون في كل مكان !
علينا كآباء، ومسؤولين، وشيوخ عشائر، ورجال دين، وووو، أن نستفيد من الدروس الكبيرة التي قدموها لنا على طبقٍ من ذهبٍ مطرّزٍ بدمائهم الزكية وجراحاتهم الموجعة قبل فوات الأوان!