عندما تدار الحياة الاقتصادية في بلد ما بعقلانية واخلاص تصبح عاملا حاسما في تطويرها وتضعها على سكة الرفاهية والتقدم المجتمعي كما حصل في العديد من بلدان العالم ومنها ماليزيا وسنغافورة، حيث يشكل مستوى دخل الفرد الاعلى في العالم، او بالعكس يمكن ان يجر هذا العامل اذا اقترن بسياسة غاشمة فيها السياسي الفاسد وهو الذي يتحكم ويقرر عندئذ تتحول الحياة الى اشكالية كبرى باعثة على تصاعد التوتر المجتمعي.

فعلى هدي وصايا بريمر سيئة الصيت بعد الاحتلال اسس الحاكمون حكومات واحزاب حلفا توافقيا لتقاسم الغنائم وتوزيع الثروة ورسمت تلك الحكومات لوحة اقتصادية حالكة تؤمن لها حصصها من تلك الثروة وشرعت القوانين وآليات العمل التي توفر لها هذه المكاسب عبر (لجان ظل اقتصادية) في كل وزارة تؤمن لها حصتها من الكيكة، فكيف حصل ذلك وكيف تمت ادارته؟

ان واحدة من جنبات السياسة الاقتصادية التي وضعت لوحتها تلك القوى معتقدة ان شعبنا في غفلة عن هذا الصنيع هي وضع آليات خاصة لتوزيع الدخل فأوجدت تفاوتا كبيرا في نصيب الفئات والشرائح الاجتماعية ولاسيما في توفير فرص العمل فقد احتكرت الاحزاب المتنفذة بقضها وقضيضها وظائف العمل في الجهاز الحكومي لمناصريها غير الاكفاء الذين لا يشكلون الا جزءاً يسيرا من الراغبين في العمل والمؤهلين لإشغالها وتحول معظمهم مع الوقت الى فاسدين وسراق للمال العام. بالإضافة الى ذلك اتباع آليات متخلفة في استحصال الضريبة مما ادى الى سهولة التهرب الضريبي من الفئات الطفيلية المحركة للسوق العراقية والتي تمتلك التأثير على الجهاز الحكومي من خلال تحكمها في اتخاذ القرار وبالتالي غياب مصدر مهم للتمويل.

والجنبة  الاخرى التي تعتبر من مخرجات النظام المالي الاقتصادي هو الانفاق الحكومي العام الذي استحوذ على معظم الموازنات السنوية على امتداد الفترة الماضية  فمنذ عام 2005، كما تشير الإحصاءات، فان مجموع الايرادات من العملة الأجنبية بلغ 709مليارات دولار انفق منها  703,11مليار دولار والباقي  تم تدويره الى رصيد افتتاحي لحساب وزارة المالية في بداية عام 2018 وبذلك تكون نسبة الانفاق من ايرادات العملة الاجنبية 99,5 في المائة من  حجم الايرادات  الكلية كما بلغ حجم التنفيذ المالي للموازنات السنوية 489 مليار دولار ما نسبته 69 في المائة هذا عدا المنفق من الاستيرادات الحكومية وعقود التراخيص المشوبة بالفساد والمدفوعات العسكرية وخدمة الديون الاجنبية . وكل ما انفق في الموازنات السنوية لم ينتج شيئا مفيدا للعراقيين بسبب عدم مرونة قطاع الانتاج وآلياته المستوحى من الفكر الاقتصادي النيو ليبرالي. ان الانفاق ومعظمه تشغيلي  جاء من  مخرجات الادارة الاقتصادية غير الكفؤة وطبيعة قانون الادارة المالية والدين العام المتخلف  في ظل انفاق استثماري لا يزيد في احسن حالاته عن 31 في المائة من مجموع الانفاق العام الذي ينفق 40 في المائة منه على الاجهزة العليا في الدولة، بالإضافة الى ان السياسة النقدية وسياسات الجهاز المصرفي قد اسهمت باليات عملها الى تهريب العملة الى خارج العراق والاقتصار على تحديد سعر الصرف ومواجهة التضخم لكنها تخلفت عن دورها في عمليات التنمية الاقتصادية بل اسهمت في اشباع السوق بالبضاعة الاستهلاكية دون ان تكون هناك حاجة الى الكثير من السلع المستوردة.

ان الحلول الواجبة لمجمل هذه السياسات  التي شجعت على الفساد وتهريب العملة والتردي العام تتطلب قبل كل شيء اعادة النظر في السياسات الاقتصادية بصورة جذرية من خلال دعم الصناعة الوطنية واعادة تأهيل المصانع المعطلة ووضع الخطط الكفيلة بدعم القطاع الزراعي وتنشيط الاستثمار واعادة النظر في سياسة الانفاق وتقليص الامتيازات غير المبررة للأجهزة الحكومية العليا والغاء الهدر في الانفاق  غير الضروري وتشريع القوانين الضامنة للعدالة الاجتماعية  والايام المقبلة ستظهر جدية اية حكومة في الكشف عن كل هذه الخيبات ووضع الحلول الناجعة توطئة لتحقيق السلم الاهلي وان يذهب الفاسدون سراق المال العام الى مزبلة التاريخ.

عرض مقالات: