لسنوات خلت كان العراقيون ينتظرون من الموازنات السنوية قدرا من الانصاف في تحسين حياتهم المعيشية والخدماتية باعتبارها الاداة الوحيدة المتاحة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية واعادة توزيع الثروة بدون تمييز .
وجاءت موازنة 2018 كما هو الحال في الموازنات السابقة لتؤكد هذا التمييز الصارخ فقد جاءت بطبعة تقشفية اقتراضية لتزيد مساحة المديونية التي يئن تحت وطأتها الاقتصاد العراقي والذي سيبقى لسنوات طويلة يسدد هذه الديون بالإضافة الى خدماتها الائتمانية . ففي هذه الموازنة كما في موازنة السنة الماضية ترجم مبدأ تعظيم الموارد الى فرض مزيد من الضرائب والرسوم الاضافية كإيرادات ليست مستحقة للدولة وانما هي تطبيق لمبدأ صحيح نظريا ولكنه ظالم في التطبيق اذ ان تحويل المجتمع عن الاستهلاك عبر هذه الضرائب الى مجتمع منتج لا يتم بهذه الطريقة وفي نهاية الامر يتحول الموضوع الى اجراءات تعسفية .
ان البيانات الضرائبية تشير الى زيادات عالية في الضرائب غير المباشرة التي تتمظهر مثلا في ١٥ في المائة على السيارات و12 في المائة على العقارات وهذه من الضرائب المباشرة و10 سنتات على المشروبات المحلاة و10- 15 في المائة على خدمات الفنادق، فضلا عن رفع تسعيرة الوحدات الكهربائية يقابل ذلك ارتفاع نسبة البطالة الى 31 في المائة زائدا 35 في المائة من العراقيين تحت خط الفقر و9 في المائة نسبة عمالة الاطفال دون 15 سنة وتوقف 13الف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية واستيراد 75 في المائة من المواد الغذائية و91 في المائة من المواد الاخرى والتعليم الاساسي بأسوأ حالاته وفوق كل ذلك الديون العراقية التي بلغت 124 مليار دولار من 29 دولة (البيانات منقولة من تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش ) ، ولا تقل عن ذلك رداءة الخدمات الصحية المقدمة الى المواطنين في المستشفيات الحكومية وقلة الادوية ورداءتها وغياب الاجهزة الطبية ما يضطر المواطنين الى مراجعة العيادات الخارجية باهظة الكلف وارتفاع اجور الاطباء واسعار الادوية وتفاوتها في هذا القطاع . كما ان الضرائب المفروضة على القيمة المضافة وهي من الضرائب غير المباشرة تنتقل تلقائيا الى المستهلك . ان السياسة الاقتصادية التي تؤشرها الموازنات السنوية تؤدي الى انخفاض الطلب الكلي وبالتالي يزيد من ظاهرة الانكماش في الاقتصاد العراقي ويعمقه .
ان واضعي مسودات مشاريع الموازنات السنوية ومشرعيها تحت قبة البرلمان كان عليهم ان يأخذوا في الاعتبار حقيقة ان الصعوبات في تحقيق اداء ضريبي ناجح لا يتحقق عبر الضرائب غير المباشرة فقط التي تتحمل عبأها الطبقات الفقيرة وذوو الدخل المحدود ويفلت منها ذوو الدخول العالية واصحاب الثروات دون ان يقابل ذلك تحسن نوعي في الخدمات المقدمة الى المواطنين وهذه بذاتها معايير صندوق النقد الدولي في اعداد الموازنات السنوية انطلاقا من اتفاقية الاستعداد الائتماني التي تنصب اساسا على تخفيض العجز الافتراضي عبر الضرائب والرسوم والقروض والاستقطاعات من موظفي الخدمة المدنية وتقليص التعيينات بمقدار خمس الخارجين من الخدمة عن طريق الاحالة إلى التقاعد .
ان تحقيق العدالة الاجتماعية عبر الموازنات السنوية وهي الاداة الحكومية التي تعكس بوضوح عقيدة السلطة تمر من خلال السياسة الحكومية وتوجهاتها المستقبلية ومصداقيتها في تحقيق هذا الهدف الذي يمر عبر رؤى استراتيجية نلخصها في الآتي :
1. التنسيق الواضح بين الإنفاق والموارد الضريبية بمختلف انواعها من اجل توزيع افضل للدخل والثروة وتفعيل حركة الاستثمار وتحويل الطابع الاجتماعي من الاستهلاك الى الانتاج وتنويع مصادر الموارد المالية خروجا من الطابع الريعي للاقتصاد .
2. العمل على فرض الضرائب غير المباشرة على القيمة المضافة مع وجود اسعار معتدلة والحفاظ على مستوياتها والتعامل في فرض الضرائب على نوع السلع وتأثيرها على الاهداف الاقتصادية والاجتماعية سواء كانت استهلاكية او سلع معدة للتصنيع او نصف مصنعة .
3. السعي الى تحقيق التوازن بين الضرائب والخدمات لتتحول الى ثقافة مجتمعية ووعي عام بالحقوق والواجبات بعيدا عن منهجية العطايا والمكارم التي تقدمها الدولة وتستخدمها في الغالب لأغراض سياسية وانتخابية .

عرض مقالات: