عندما كنت صغيراً ،كنت أذهب مع أبي الى مجالس رمضان التي تقام في قريتنا ، في أقصى جنوب القلب ، وأصغي بانتباه لما يقوله القارئ عن سيرة الإمام علي (ع) وفضائله وصفاته وطريقة حكمه حتى انعجنت بمحبته بشكل لا يصدق. بعد ذلك قرأت ما كتبه المحبّون والمبغضون الذين لم يجدوا ثغرة واحدة في سيرته ، حيث العدالة والإنسانية والنزاهة والإيثار والسعي الى ما ينفع الناس. فترسخت عندي قناعة تامة ومازالت بأن هذه الشخصية فريدة من نوعها عبر التاريخ رغم وقوف الفاسدين والمستبدين والساعين بالفتنة بين الناس ضده ومحاربتهم له وقتله !
استذكرت تلك الأيام التي تتزامن مع ذكرى استشهاده، يوم أمس ! انه أعدل حاكم عرفته البشرية ، على وفق ما جاء في احد تقارير الأمم المتحدة ، حيث تأكد للجميع انه ورغم قصر مدة حكمه لكنه حكم بما يرضي ضميره والإنسانية جمعاء.
قال ذات يوم: "لو كان المال مالي لساويت بين الناس في توزيعه ، فكيف والمال مال الله". وهذا دليل على إيمانه الشديد بمبدأ المساواة في توزيع الثروة ، والتي تعتبر أولى بذور الاشتراكية في العمل قبل ظهورها كفلسفة. وفي مكان آخر يقول: "إذا شاهدت قصراً فتأكد أن خلفه ألف ألف كوخ" وهذا دليل آخر على كشفه للفاسدين ولصوص المال الساعين الى خراب النفوس والضمائر !
مآثره كثيرة لا تحصى، من خلال سيرته التي ذكرها المؤرخون من الموالين وغيرهم وحتى المستشرقين الذين أعجبوا بشخصيته أيما إعجاب. فإطفاؤه الشمعة بعد انتهاء عمله في خدمة الناس وبقاؤه في الظلمة ، ووصيته إلى ابنه الحسن بعد أن ضربه بن ملجم قائلا "اطعم أسيرك مما تأكل واسقه مما تشرب. فإذا متُّ فضربة بضربة وإذا عشت فأنا احكم فيه وربما أعفو عنه". إنها أخلاق الإنسانية العظيمة التي كان يتعامل بها مع الناس وحتى مع قاتله. كذلك وصيته إلى عامله على مصر مالك الاشتر التي يقول فيها: "اعلم إن الناس صنفان، فأما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" والتي تعتبر قمة التعامل الإنساني بين البشر ولا تفرق بين هذا وذاك على أساس الدين واللون والقومية !
و من مآثره ما يعجز اللسان عند الحديث عنها. لهذا علينا أن نكون حقيقيين في اقتدائنا بسيرته، وأن نحكم بالعدل والمساواة والنزاهة بين الناس ، وان نجعل من أمورهم أولى مهامنا وان نحمل همومهم وأوجاعهم ، فلا يكون هناك فقير يتضور جوعا وبردا وحرا ، ولا يتيم لا يحصل على ثوب يفرحه في يوم عيد !
علينا أن نوزع الثروة بالتساوي بين الناس ، ونحارب الفاسدين مهما كان موقعهم وشخصهم، ونفضحهم ونطالب بمحاسبتهم كي لا تكون هناك قصور وفلل ومقاطعات من الأراضي والأطيان، مقابل أكواخ مهلهلة وبيوت صفيح وأطفال ونساء يتسولون في تقاطعات الطرق ، وعوائل بلا سكن يليق بها ، ومدن بلا خدمات ومرضى بلا علاج ، وأرامل تندب حظها ويتامى عراة !
الاقتداء بالسيرة العظيمة هذه لا بالشعارات والخطابات الرنانة وخداع الناس ، بل بالعمل الذي ينفع الناس ، لأن خير الناس من نفعهم وخدمهم ومنحهم السعادة وسما بالوطن في كل حين!