كان باروخ سبينوزا قد ظهر الى سطح الوعي في حياته وهو يرى حوله أدباء وفلاسفة أعلام لا يفصلون ما بين اللاهوت والإيمان. ومن جهة أخرى يفصلون بين العقل والجسد.
هذه بداية صعبة لعمود صحفي، ستجعل القارئ يهرب، و هكذا سأرفع راية الفشل من السطر الثاني.
لنستعين بالدور الثاني(وليس الثالث)، ونأخذ فرصة أخرى، من كرم القارئ. لنفترض أن سبينوزا مواطن بصري نشأ في الثمانينيات او التسعينيات من القرن الماضي، فهو اليوم يقارب الأربعين من العمر. باروخ سبينوزا البصري كان طفلاً حين رأى مدينته وهي تنال حصّتها من خراب الحرب العراقية- الإيرانية، وتنقطع عنها الكهرباء والخدمات بشكل يومي. ثم صعد الى سطح الوعي(مثل نظيره الهولندي سبينوزا الأصلي)، ورأى شوارع مدينته تفيض بجموع الجنود الجائعين المنكسرين العائدين بالهزيمة من الكويت، وكان يقف في المشهد الذي تصوّره كنعان مكية في جمهورية الخوف، حين سددت دبابة عراقية منكسرة كانت تقف في ساحة سعد فوهة مدفعها الى صورة القائد الذي لم يستح أن يستمر في الابتسامة، بينما كان جيشه ينكسر وقوافل الضحايا لا تجد عشرين لتراً من البنزين لإيصال الجثمان الى أهله.
اسبينوزا البصري، وقتها بدأ يفرّق بين تحشيشات القائد وحنجورياته(التي كانت بمثابة عقيدة حكومية)، وبين القائد في الميدان. يقول مايكل نايت في كتابه(مهد الصراع) إن صدام كان لا يبيت ليلتين في المكان ذاته.
انتهى سبينوزا البصري بعد ذلك واقعاً في فخ الحصار الذي جعله يتشارك مع شقيقه المعلم الذي بات يعتاش من بسطية لبيع السكائر، بينما كان يرسل سبينوزا ليقف في الطابور ساعتين او ثلاث بانتظار طبقة بيض. لكن القائد وقتها لم يقلع عن عادة الابتسام وإطلاق عبارات الانتصار، فيعود سبينوزا ليلاً الى المنزل ويقلّب المعاجم بحثاً عن عمق دلالي لغوي لمعنى السفيه. السفيه من لا يحسن استخدام المال الذي بين يديه، فيبدده ويبقى محسوراً، لكن القائد بدد (أموالنا)بينما استمر هو في معيشته الرغيدة في قصور نشاهدها مع نشرة أخبار الساعة الثامنة.
سبينوزا اليوم يمشي في شوارع البصرة، ومعه زجاجة ماء(RO)خشية أن يصاب بالتسمم لو أنّه شرب عن طريق الخطأ شربة ماء ملوث. لكنه في كل نشرات الأخبار كان يتطلع الى رجال مدينته، أعضاء مجلس المحافظة وهم يتأسّون على حال المدينة, حتى كاد يحفظ عبارتهم الشهيرة التي تتحدث عن قلّة التخصيصات في الموازنة. سبينوزا صار يفرّق اليوم- مثل صاحبه الهولندي- بين الموازنة والصرف، ويظن(على العكس من ديكارت) أن شعارات الكتلة التي خاضت الانتخابات شيء ، وما يحصل في مجلس النواب شيء آخر.

عرض مقالات: