منذ أن بدأت أفقه أولى المعاني في الحياة والسياسة، وخاصة بعد الثورة المظلومة، في الرابع عشر من تموز عام 1958، وأنا الصغير المنشد باكراً لواقع الحياة في البلاد وناسها إنطلاقاً من البيت والعائلة، أقول منذ ذلك، طرّت مسامعي، أو قرأت كلمات عن التحالف والجبهات أو الاتفاقات السياسية. وثم تعمقت أفكاري بعد قراءاتي الأولى وثم بلوغي مرحلة الانتقال من مرحلة وعي الذات والواقع، إلى مرحلة الفعل أومحاولته، لتغييره، عبر أداة التنظيم، والانتماء لمن أقنعني بجدواه في العمل والنشاط على أسس الواقع وقراءته، وفقا لمنهج عرفته باسم الديالكتيك أو الجدل.
جاءت أحداث ما بعد ثورة تموز، وأحداث بقيت محفورة في الذاكرة، عام 1963، وصولاً إلى العام 1973، ورافقت بأفكاري أسباب سقوط تحالف ما قبل انتصار الثورة، (جبهة الاتحاد الوطني)، وانهيار النظام الوليد، وثم وقائع التطورات حتى عودة المغرقين في الإجرام بذريعة تحقيق أهداف وطنية وقومية، ودعوتهم للتحالف مع القوى الوطنية وبشكلٍ خاص مع الحزب الشيوعي العراقي، واستجابة الحزب للدعوة وانبثاق ما أطلق عليه حينها "الجبهة الوطنية التقدمية"، مع بعث الخراب والقتل والعسف والحروب.
والتزاما بواجب ونهج التثقيف الذاتي، المنطلق من حاجات وتطلعات الذات والطابع الشخصي، وأيضا وبعد ذلك، التزاما بمهام العضو الحزبي داخل التنظيم. وربما من باب التبرير الفكري لاسباب ودوافع التحالف المنشود، المعلن حينها، قرأت بنهم ما ورد في الكتب الماركسية والشيوعية، حول التحالفات. كان مصدرنا الأساس كتاب القائد العمالي البلغاري، ج. ديمتروف، وأيضا تجربة البلاشفة قبل وبعد الثورة عام 1917. وثم كانت تخريجات المدرسة السوفيتية، في الفكر والتنظير، لحركات التحرر الوطني، خاصة ارتباطا بتنظيرات مراحل تطورها وإمكانيات تجاوز المراحل أو دغمها بالسير في طريق ما أطلق عليه حينها، "طريق التطور اللارأسمالي". بموجبه توفرت تحليلات لقوى لبست أثواب الثوروية، ووصل الحد في أمر التنظير بجعل هذه القوى، قائدة للتطور "نحو الإشتراكية" المنشودة...! وكان البعث، ومع شديد الأسف، من بين تلك القوى. فإذا لا بأس، بل من المناسب والضروري الإاحتكام إلى هذه التحليلات، لمنظرين ابتعدوا منذ زمن وارتباطا، بتجمد الفهم وتعطيل المنهج الجدلي في قراءة التطورات، تحت ضغوطات فئات البيروقراطية الدولتية لما قيل أنها أنظمة "الاشتراكية المتطورة". والتي أودت في سنوات لاحقة إلى الإنهيار وسقوط تلك التنظيرات على رؤوس أصحابها، وثم على رؤوس القوى التي التزمت بها في بلدان العالم الثالث، ورؤوس شعوبها.
أتذكر الآن وبشكل حيّ، كيف أن البعض، كان يورد نصوصاً، يقتطعها من بين تسطيرات الكتب المقروءة، ليلبسها على الواقع بقراءات أثبتت سنوات بعد الانهيارات خطلها الفكري والعملي، وهي بعيدة كل البعد عن المنهج المادي الديالكتيكي- الجدلي، الذي وصفه انجلز مرة بأنه روح الماركسية، بل هو الماركسية. فكانت النتيجة تشكيل تلك الجبهة العتيدة "الوطنية التقدمية"، التي خطط لها لأن تكون أداة متجددة، لتصفية الحزب الشيوعي العراقي والقوى الوطنية الأخرى، ولحاملي رايات التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، في العراق وبلدان المنطقة، فكرياً وثم جسديا.
نعم أتذكر الآن كل هذه المسيرة، وبهذه العجالة، اسجلها عسى أن نعيد قراءات تلك المراحل، أو المصائب، وتصويب مواقفنا برؤية واضحة، وباستخدام جاد وحيوي وصارم، للمنهج الديالكتيكي. وربما من المناسب تسجيل بعض الخلاصات في هذا الطريق:
-
كما أننا نؤمن بوجود قوانين إجتماعية- إقتصادية، وأيضا رؤى في الوعي والثقافة، مقدمات، لنشوء الأحزاب والكيانات التنظيمية، أوالحركات الإجتماعية، فإن لنفس القوانين وفعلها في الواقع تأثير فاعل وأساس في ظهور ضرورات تشكيل التحالفات، أو عقد الإتفاقات، سواء الإنتخابية أو العاكسة لضرورات إنجاز مرحلة أو مراحل معينة. وهنا تتجدد فكرة أهمية التمكن من المنهج واستخدامه في قراءة الوقائع، والمتغيرات، لا على أساس أهواء القائد، أو القيادة في مرحلة محددة، وإنما على أساس ثوابت نفس الواقع، وبقراءة منهجية.
-
إن ظروف، ومكونات ودوافع الواقع، أو عناصر المجتمعات، والمراحل السياسية، تتغير وربما بكل أبعادها، وهي محكومة بقوانين التحولات، وعلى اسس قوانين: وحدة وصراع الاضداد، وتحول التراكم الكمي إلى التحول في الكيف، والملموسية والتأريخية في تناول الأمور. وهي عناصر هامة في المنهج الديالكتيكي. فكل شيء في الحياة في حركة دائمة، وإن لم تتبين أبعادها بصورة واضحة، ببساطة وفي وقت قصير. أي أن كل شيء في المجتمع يتغير وما يتلاءم مع منطق الحياة يبقى متجدداً، وما يشيخ ويتخلف عن موجبات التحول ذاهب إلى زوال.
-
إذا منطق الجدل يعني تغير المجتمع باسسه الإقتصادية- الإجتماعية، والثقافية وهذا يؤدي حتما وتأريخياً إلى تغير طابع الكيانات الاجتماعية، وانعكاسها على تمثيلها عبرالمنظمات والأحزاب باعتبارها وليدة الحاجات والتغيرات. والبقاء في المراوحة يعني الموت أولا أوآخرا. وهذا ما حصل في أنظمة"الإشتراكية الفقيرة" التي ذهبت مع رياح التغيرات وحين بقيت متحجرة ثابتة في المكان والزمان.
-
إن مفهوم التحالف... أو عقد التحالفات يخضع لنفس المنطق. فمنطق التطورات في العراق صار جليا، ولا تتحمل التحليل الأيديولوجي الجامد أو الصارم، وفقا لأداة التحليل الطبقي التي كانت سائدة. فلقد تبلورت قوى قد لا ينطبق عليها ذلك, وهي خرجت إلى النور لأسباب سياسية مباشرة وتمثل قوى متشعبة المناهل الطبقية.
تطورات ما بعد عام 2003، والطريقة التي تم بها إسقاط النظام، بل والدولة في العراق، وعلى أساس تراكمات هائلة، في زمن العسف والإرهاب المجتمعي طيلة ما يقرب من 40 عاماً، التي أفرغ عبرها المجتمع من جل حيثياته الإجتماعية والثقافية، التي عرف بها حتى أواسط السبعينات، أفرزت قوى من العبث إرجاعها إلى التحليلات الكلاسيكية، الجامدة. وتجسد ذلك بنهج قوى تبرقعت بالإسلام، السني أو الشيعي، وركبت حصان التمثيل الديني – الطائفي أو القومي – الاثني، فقط، أقول فقط، بهدف تسلق كراسي الجاه والسلطان وباساليب الخداع والنهب للثروات، والتستر بأدعية الدين ومناسباته التاريخية.
وضعنا في العراق، وبعد أكثر من 35 عاماً، من التدمير والتسفيه، وليس على الصعيد المادي فحسب، وإنما على صعد التكوين الثقافي والفكري بل والتربوي، بما أدى إلى التفريغ المريع لواقعنا الإجتماعي ولتسطيح الوعي والروح لمجتمعنا العراقي، بسبب القمع والترهيب والحروب الداخلية والخارجية، وثم الحصار الدولي الظالم لأكثر من 12 عاما. ثم جاءت الأعوام الخمس عشرة، منذ أحداث سقوط النظام الدكتاتوري، والدولة العراقية بكل حيثياتها ومؤسساتها. وترافق ذلك مع ركوب قوى إدعت التمثيلات الكاذبة بركوبها مأساة نتائج تراكمات السنوات السابقة، كما أسلفت، وظهرت أحزاب إسلاموية، شيعية وسنية، وذات هويات طائفية بالمعاني الضيقة للتمثيل. الأمر الذي ساعد، وبمساهمة فاعلة وواعية، من قبل الإحتلال وسياساته الهوجاء، في خلق الفوضى، والتأسيس لنظام المحاصصات الدينية- الطائفية، والقومية – الأثنية، وعلى أسس تفرز قيادات وواجهات، ذهبت إلى أقصى حدود الممارسات لحصر السلطات ومنافذ السلطة والجاه بيدها. فأطلقت أسباب انتشار نوازع استغلال المواقع ونشر نهج السرقة والفساد بكل معانيه وأبعاده، وعلى كل الأصعدة. كل ذلك قام وبوعي، في واقع مجتمع أفرغ من كل معالمه الثقافية والتربوية، أو هكذا بدا، على الأقل خلال السنوات الأولىالتي تلت السقوط.
هذا الواقع أفرز مهام آنية، مرحلية، تضعف أمامها أية مهام بعيدة المدى بطابعها الإجتماعي – الإقتصادي، وفي مقدمتها: وقف التدهور، وقطع الطريق على نظام المحاصصات، ووضع أسس مبدئية وموضوعية لإصلاحات سياسية وثم إقتصادية، أولية، وضمان توفير عوامل وركائز، لإيجاد السبل الكفيلة، ببناء نظام ديمقراطي، أساسه حرية المواطن، وتعزيز سلطة المواطنة، وكل أسس بناء دولة مدنية ديمقراطية، بعيدا عن كل مظاهر التمثيل الديني- الطائفي، وخلق موازين قوى، تفتح في المجال لسحب البساط من تحت أي عوامل تسمح باستمرار المحاصصات بأي شكل تتمظهر، ورفع شأن مفاهيم الإخلاص والكفاءة، في تقلد المراكز الحساسة في الدولة.
هذه المهام ارتبطت بواقع ظهور حراك جاهيري، في الشارع، وساهمت بظهوره، وبلورته عوامل عديدة متداخلة، وقوى ربما لا تعبر، في نشأتها وتكويناتها، عن أسس المفاهيم الفكرية والسياسية أوالطبقية إن أخذت ضمن المعايير لعقائديةالأيديولوجية، الكلاسيكية، الصارمة.
فتلاحم حركة الشباب المدنية منذ العام 2015، مع حركة المناصرين للصدر، وهي بكل الأحوال تمثل فئات إجتماعية مهمشة، بفعل السنوات العجاف في ظل نظام القمع، والتي زاد تهميشها وعوزها خلال سنوات المحاصصات ما بعد عام 2003. هذا التلاحم في الشارع، والتشارك في الحركة، التظاهر، والشعارات خلق واقعا سياسيا جديداً، وقوى صحيح أنها غير متماسكة، تماما، لأسباب موضوعية وذاتبة، وبينها محاولات شخصنتها عبر خلق حلقات مناصرة، وتبعية، ابتعدت عن مستلزمات تطويرها، وبلورتها كتلة كبيرة ضاغطة، إلاّ أنها فرضت حالة ديمقراطية، وكتلة إجتماعية مؤثرة يمكن لها أن تغير الموازين لصالح مسيرة إصلاحية معادية لكل مظاهر التحاصص والفساد. وبدا منطقياً وموضوعيا، أن هذا الحراك، لا يمكن إلا أن يتحول إلى صياغات سياسية قد تتمثل باتفاقات أو تحالفات تتلاءم وواقع تركيباتها ومكوناتها. ومن هنا وبعد أن أظهرت الإنتخابات مؤشرات شعبية واعية وواسعة، في رفض كل الأحزاب التي قادت مناهجها وممارساتها في الحكم، والفساد إلى عقم الحياة السياسية، واستشراء الفساد في جميع مفاصل الدولة والمجتمع. ووفر ذلك قاعدة وأس يستدعي التقارب والإتفاق على نقاط برنامجية للنهوض بالحركة أولا وثم للشروع بخطوات غذ السير نحو الإصلاح العملي في جميع المفاصل.
قد أرى خطلاً أو أخطاءً أرتكبت، في مقدمات وسبل بلوغ الإتفاق بين من تصدر الحراك طيلة السنوات المنصرمة، وبشكل خاص بين تيارات المجتمع المدني، وبشكل خاص الشيوعيين العراقيين، وجماهير الحراك الصدري، ولكنها حفزت، ووفرت زخم المضي في الحراك وخلق أهدافٍ وتوجهات مشتركة وحاسمة في تغيير وجه الواقع السياسي والعملية السياسية في البلاد، بوجهة الإصلاح والخروج من مصيدة ومستنقع المحاصصات والفساد.
هي مهام وطنية، بدونها لا يمكن التفكير برفع شعارات أو مهام أبعد، بالمعاني الطبقية- السياسية، والإجتماعية التأريخية. فلسنا أمام مهام الإنتقال الإجتماعي- الإقتصادي التأريخي، وإنما أمام مهام سياسية- تشريعية، آنية للخروج من المأزق، الذي إن استمر يعني بلوغ مرحلة أعمق في الإنهيار وفقدان كل حلقات الإستمرارية في البناء. فهي مرحلة العقم والإنسداد التأريخيين.
والآن علينا البحث في سبل النشاط والعمل، في كلا الحالتين، سواء أصبحت قوى الإتفاقات المدنية- الصدرية، في الحكم أم في المعارضة، ولتوفير ضمانات وركائز التوجهات اللاحقة، لتحقيق الأهداف ولاطلاق عملية إصلاحية واسعة وجذرية. وهي مسؤولية تأريخية وحاسمة، فهل نعلو ونقف عند مستوياتها؟!

عرض مقالات: